المثقف العراقي وغياب دوره القيادي

إن من رابع المستحيلات أن يَكنَّ شعبٌ آخر من شعوب العالم الثالث ولا يثور ويقلب الدنيا رأسا على عقب لو وجد نفسه في وضع يشبه الوضع العراقي الحالي السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والتعليمي والزراعي والصناعي.
فمن يتابع المماحكات والمضاربات والمشاحنات بين جماعة الإطار التنسيقي الشيعي الولائي وبين التيار الصدري وحليفيهِ الكردي بارزاني والسني الحلبوسي يعجب من صمت الشعب العراقي، وانشغاله عن هؤلاء الصبية السياسيين الذين يتقاتلون على المناصب والمكاسب جاعلين الوطن خرابة، وأهله أذلة.
فلو عذرنا جمهرة المواطنين السذج الذين يسهل خداعهم وتضليلهم من قبل الفئة القليلة المستفيدة من جهلهم وعصبيّاتهم الطائفية والعنصرية والقبلية فكيف نعذُر المثقفين والمتعلمين ولا نطرح عليهم هذا السؤال: ماذا تنتظرون لكي تدركوا أن وطنكم يضيع ولكي تتحركوا قبل فوات الأوان؟
فلا يختلف اثنان على أن العراق موطن ثقافي عربي أصيل وعريق. ولا ينكر أحدٌ أيضا ريادة المثقف العراقي، عربيا ودوليا، في الكثير من مجالات الإبداع. لكن لا بد لنا أن نقرّ بأن جسد الثقافة العراقية أصيب بالترهل والتشظّي والتمزق مع بداية يوليو 1958 وما جاء بعدها من صراعات سياسية تحولت إلى صدامات عقائدية وفكرية جرفت في خضمها أغلب المثقفين العراقيين، وما زالت آثارها وانعكاساتها تفعل فعلها في فضاء الثقافة العراقية إلى اليوم.
◙ ولأن جذور الثقافة التقدمية التنويرية التثويرية في العراق لا تقل عن شقيقتها المصرية عمقا ورسوخا وصلابة، فما زال لدى المواطن العراقي بعضُ أمل في أن يستعيد المثقفون العراقيون دورهم القديم، فيستنهضون ما تبقى فيهم من قيم ومبادئ
وفي سنين حكم نظام صدام حسين، بما عرف عنه من سطوة مبالغ فيها على كل أنواع الإبداع الذي لا ينخرط أصحابُه في حملات التسبيح بحمده، أصيب جسد الثقافة العراقية بانشطار حاد بين مثقف سلطوي فقَد هويته وتخلى عن وظيفته التنويرية التثويرية الإنسانية، وغادر موقع القيادة، وانخرط في عملية الترويج لعصبية السلطة ودكتاتوريتها العقائدية المغلقة، وبين مثقف آخر رفض السقوط في شباك الحزب وفضل دخول غيابة السجون، أو مواجهة الاغتيال بالسموم والكواتم والقبور الجماعية، أو ولّى وجهَه صوبَ الغربة وتاه في دروبها الموحشة.
ثم جاء الغزو الأميركي للعراق 2003 وجاءت معه الأحزاب الدينية والقومية المتعطشة للثروة والسلطة لتضع المثقف العراقي أمام ذات المأزق القديم، فإما مع دكتاتورية العقيدة الواحدة الطائفية أو القومية أو الحزبية أو العشائرية، أو مع الجوع والحرمان والصمت القهري والغربة القاهرة من جديد.
ومؤسف جدا أن بعض مثقفينا وإعلاميينا وصحافيينا المعروفين باليسارية والشعبوية تخلوا عن مواقفهم ومفاهيمهم وشعاراتهم السابقة، وانخرطوا في العمل داخل أحزاب السلطة، متطوعين أو مضطرين بحكم الحاجة، ففقدوا، رويدا رويدا، أصالتهم والكثير من مبادئهم القديمة وقيمِهم ومقاييسهم للأمور، وتفننوا في اختلاق التبرير والتنظير لتهدئة وجع الضمير الذي لا بد أن يعاود وخزَه بين حين وحين.
ورغم انكسار الوطن، في ظل هيمنة الدكتاتوريات الدينية والعشائرية الجديدة، وبلوغه أدنى درجات التدهور والانحطاط فلم يستعدْ إلا أقلّ القليل من المثقفين وعيَه القديم، ويتمرد على وصاية أحزاب السلطة، ويتوقف عن خدمة عبثها بهوية الوطن، وتمزيقها لجوهر لُحمته وأمنه واستقلاله واستقراره.
ولو قيس ما فعلته جماعة الإخوان المسلمين في أقل من عام بمصر وبالمصريين بما ارتكبه نوري المالكي وحزب الدعوة في عشر سنوات بحق العراق والعراقيين والمنطقة لكان قطرة في بحر. ومع ذلك فلم يصبر المثقفون المصريون طويلا كما صبر العراقيون.
إن لنا فيما جرى في مصر أسوة حسنة. فالذي جرى أن الملايين الثلاثين التي خرجت يوم الثلاثين من يونيو 2013 لم تغادر ساحات صمودها إلا بعد أن أسقطت حكم الإخوان المسلمين، وأعادت الاحترام إلى مؤسسات الدولة، وصانت حقوق المواطنين في الحرية والكرامة، وأرست سلطة القانون، وصانت حرمة القضاء واستقلاله وحياده، وفتحت أبواب الغد على مستقبل خالٍ من التزمّت والاستبداد.
وبالنظر والتدقيق في تفاصيل دوافعها وطبيعتها نجد أنها لم تكن هوجة (فرهودية) جاهلة وطائفية وعشائرية ومناطقية، كما جرى عندنا في العراق يوم الغزو الأميركي للبلاد، بل كانت مبدئية وأخلاقية وطنية خالصة أساسُ خلافها مع الإخوان فكريٌ وعقائدي وسلوكي ومنهجي، ورفضٌ حازم وحاسم لثقافة العنف وهيمنة العقيدة الواحدة.
وما يعنينا هنا هو موقف المثقف المصري، وبالأخص رجال الإعلام والأدب والرسم والتمثيل والموسيقى والغناء والمحامين وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين ورجال المال والاقتصاد وأعضاء منظمات المجتمع المدني وشبان الإنترنت وفيسبوك وتويتر ويوتيوب.
◙ لو عذرنا جمهرة المواطنين السذج الذين يسهل خداعهم من قبل الفئة القليلة المستفيدة من جهلهم وعصبيّاتهم الطائفية والعنصرية والقبلية فكيف نعذُر المثقفين والمتعلمين ولا نطرح عليهم هذا السؤال: ماذا تنتظرون لتدركوا أن وطنكم يضيع؟
فما فعلوه في تثوير الشارع المصري وقيادته والصمود داخله حتى النصر الأخير كان مذهلا ورائدا بلا حدود. فقد أعادوا إلى الميادين المصرية، في القاهرة وبقية المحافظات والأقاليم والقرى والأرياف، نبضَها الثوري الأصيل، وجعلوها َتثبُت، بشمم وإباء وشجاعة نادرة، في مواجهة عنف بلطجية الإخوان وشبيحتهم المدججين بالأسلحة النارية والهراوات وقناني المولوتوف الحارقة.
يضاف إلى ذلك أن التظاهرات المصرية الداعية إلى إسقاط نظام الإخوان حرَّكت الكثير من المياه العربية الراكدة، وأطلقت حملات تضامن وتأييد ومناصرة من قبل عشرات بل مئات المثقفين والإعلاميين والفنانين العرب، بشعار واحد لم يتغير (لن نعود إلى الجاهليّة).
هذا ما حدث في مصر أمس. ولأن جذور الثقافة التقدمية التنويرية التثويرية في العراق لا تقل عن شقيقتها المصرية عمقا ورسوخا وصلابة، فما زال لدى المواطن العراقي بعضُ أمل في أن يستعيد المثقفون العراقيون دورهم القديم، فيستنهضون ما تبقى فيهم من قيم ومبادئ، وبالأخص أولئك العاملين في نقابات واتحادات ثقافية وإعلامية وصحافية تموّلها وتهيمن على قرارها الأحزاب الحاكمة، فينتفضون ويسترجعون دورهم القيادي في تثوير الشارع وتنويره، وإشعال نار الكرامة والحمية فيه، كما كانوا يفعلون دائما عبر تاريخ العراق النضالي الطويل.
أما حين يمتنع المبدعون والمثقفون عن التمرد على القهر والفساد والعمالة، وحين لا يعاودون نهجهم الثوري التقدمي التنويري في الكتابة والرسم والغناء فإن الوطن سيفقد صوته واسمه وبصيرته، ربما إلى أبد الآبدين.