المتحف المصري الكبير منصة عالمية لتراث الفراعنة

القاهرة - خلية من النحل تتسابق مع الزمن وتعمل على قدم وساق على بعد أميال من غرب القاهرة بالقرب من أهرامات الجيزة، حيث مشروع المتحف المصري الجديد الذي بدأت تظهر ملامحه بعد تعثر دام أكثر من 15 عاما من طرح فكرة الإنشاء وبدء التنفيذ، ولم تبق إلا شهور قليلة على الافتتاح الجزئي له المرتقب منتصف العام المقبل، على أن تحتفل مصر بالافتتاح الكلي للمتحف 2022.
تبلغ مساحة المتحف حوالي 500 ألف متر مربع، وتشغل أبنيته مساحة تقدر بحوالي 100 ألف متر مربع، من ضمنها 45 ألف متر للعرض المتحفي ومتوقع أن يحتضن المتحف نحو 100 ألف قطعة أثرية متنوعة ومتعددة لحضارات منقضية الأزمان. وتشمل المساحة الباقية مركز أبحاث، ومعاملا للترميم، ومكتبة متخصصة في علم المصريات، ومركزا للمؤتمرات، وأماكن مخصصة لخدمة الزائرين، مثل المطاعم وسينما ثلاثية الأبعاد، ومحال لبيع الهدايا والأثر المستنسخ، وكافيتريات.
بوابة طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي هي المدخل الرئيس للمتحف التي تقود الزائر، طبقا لتصميمات المشروع، إلى ساحة كبيرة، تكون نقطة التقاء الزائرين ليجدوا أنفسهم في رؤية مباشرة لأهرامات الجيزة الثلاثة، ولا يفصلهم عنها سوى كيلومترين.
لم تظهر ملامح المتحف من الخارج إلى الآن، لكن طارق توفيق المشرف العام على مشروع المتحف الكبير كشف عن إنهاء قرابة 95 بالمئة من البنية الخرسانية لمبنى المتحف، بفضل همّة العاملين الذين تتراوح أعدادهم بين 3 و4 آلاف، تلمحهم الأعين من بعيد وهم ينقلون بحرص شديد القطع الأثرية إلى مركز الترميم بالمتحف، لتجهيزها للعرض عند الافتتاح المرتقب الذي تأجل عدة مرات.
متحف تتجمع فيه 100 ألف قطعة أثرية نصفها للعرض الدائم والباقي تظهر في معارض مؤقتة
جاءت فكرة إنشاء المتحف في عام 2001 عندما طرح فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق رؤيته المتعلقة بحاجة المصريين إلى صرح أثري كبير يعرض بشكل لائق كل ما في خزائن وسراديب مصر من آثار وكنوز الحضارة الفرعونية التي يتم اكتشافها، وخلبت الألباب عبر العصور، ويتلافى به عيوب المتحف القديم بالتحرير (وسط القاهرة) في محدودية مساحته وصعوبة الترميم بداخله.
وبدأت أولى خطوات تنفيذ رؤية الوزير في 2002 بتنظيم مسابقة معمارية عالمية لوضع تصميم هندسي للمتحف، تقدّم لها خبراء معماريون من 83 دولة، وفاز تصميم فريق مكوّن من 14 مكتبا استشاريا من 6 دول هي مصر وإنكلترا وأيرلندا والنمسا وهولندا وكندا، وشارك في وضع الرسومات والدراسات الخاصة بالمتحف 300 مهندس واستشاري محلي ودولي.
بعد التصميم وقع الاختيار على قطعة أرض بالقرب من ميدان “الرماية” بالجيزة وتقع بها الأهرامات، وتواصلت أعمال المشروع حتى توقفت تماما بعد ثورة يناير 2011 نتيجة عدم الاستقرار السياسي للبلاد، ثم عاد العمل إلى الواجهة من جديد عام 2014 ليكون محل اهتمام الدولة المصرية.
وأكد خبراء في مجال السياحة لـ”العرب”، “أن إنشاء المتحف بالقرب من أهرامات الجيزة الثلاثة يساهم في المحافظة على الممتلكات الأثرية التاريخية لحضارة مصر القديمة، لأن الوقوف أمام بعضها ينطوي على رسالة قوية من العالم القديم إلى العالم الحديث”.
ووصفت صحف عالمية المتحف بأنه أعظم مشروع حضاري وثقافي خلال القرن الجديد, واختارته التايمز البريطانية كثاني أهم 10 مشاريع ضخمة لها دور مهم في الحضارة الإنسانية في الفترة المقبلة.
|
وقال ستيفن غرونبرغ، عضو فريق التصميم الخاص بالقاعات الداخلية لمشروع المتحف الكبير، لأنه يتفوّق على متاحف العالم كونه متحفا خالصا عن حضارة أرض الكنانة بكل ألوانها، حيث التنوع الذي يتميز به المتحف وفلسفته التي سيطبقها في إبراز الآثار.
إكسير الحياة
الترميم هو إكسير الحياة للأثر، وإذا تم بنجاح يعطي القيمة للأثر، وإن فشل أعاده سجينا في التوابيت، لذلك كان الاهتمام بإنشاء مركز الترميم قبل البدء في أيّ إنشاءات، وتم افتتاحه في يونيو 2010، على مساحة 32 ألف متر مربع، ويعدّ أهم مراكز ترميم الآثار الفرعونية حول العالم، ويحتوي على 7 معامل علمية متخصّصة في فحص وتحليل العينات الأثرية، و7 معامل ترميم.
جاء تأسيس المركز وفقا للمعايير الدولية ليكون بمثابة معهد للأعمال الترميمية لمختلف الآثار من جميع أنحاء مصر، ومركزا لتدريب الكوادر البشرية المتخصّصة في أعمال الحفظ والترميم من مصر والدول العربية والأفريقية.
عندما تجولت “العرب” في المركز لاحظت أنه لا يقوم بعمليات ترميم لأي من الموميات، فهناك قواعد ومواثيق دولية تحكم عمليات الترميم، لكن المرمم يعالج الأثر لا يرممه، خاصة أنه يتعامل مع لفائف المومياء وجسد إنسان محنّط، وعليه قبل العلاج أن يتأكد من خلو المومياء من الفطريات والحشرات. وينقسم المرممون إلى ثلاث فئات، منهم من ذوي الخبرة وحاصلين على دكتوراه في الترميم، وآخرون متوسطو الخبرة، وهناك حديثو التخرج، وكل معمل له رئيس وفريق عمل وخطة عمل على الآثار المطلوب ترميمها.
شرح أسامة أبوالخير، مدير مركز الترميم، لـ”العرب” الموقف، قائلا، “عمليات الترميم تتم بطريقة علمية، ودراسة مبدئية لحالة الأثر، وأخذ عينة منه لمعرفة مكوّناته والمواد المصنوع منها، ثم يتم إرسال العينة إلى المعمل المختص، ويقوم المسؤول في
المعمل بإجراء الفحوصات والتحليلات المطلوبة ويكتب تقريرا يحدد فيه نوع المشكلة، وبناء عليه يضع الفريق خطة الترميم والعلاج، وقد تحتاج الحالة إلى اللجوء لأكثر من معمل”.
تنقسم المعامل إلى مختصة بالآثار العضوية، المصنوعة من نبات البردي أو الجلود أو الأخشاب، وأخرى للآثار المصنوعة من الأحجار والفخار والمعادن والمجوهرات، وهناك معامل الآثار الثقيلة المعدة للبقايا الآدمية وترميم وحفظ القطع كبيرة الحجم.
عن الأسلوب العلمي المتبع داخل المعمل أوضح رامي مجدي، أخصائي ترميم، أن أولى خطوات العلاج والترميم الصحيح تبدأ من مرحلة التوثيق الجيد للأثر فوتوغرافيّا، ثم الرسم “أتوكاد”، ثم عملية الفحص الجيّد باستخدام الميكروسكوبات المناسبة، والتعرف على مظاهر التلف ثم التحاليل لمعرفة نوعية مواد الترميم.
حرص القائمون على المتحف على أن تعطي إيحاء بالبيئة الطبيعية للعصر الذي ينتمي إليه الآثار
تلك المواد تكون استرجاعية أي يمكن إزالتها إذا ظهرت مواد أفضل في المستقبل، والبعض من الآثار تحتاج إلى إزالة ترميمات سابقة لاستخدام مواد غير مناسبة للأثر كان متعارفا عليها عالميا وقت إجراء الترميم، ومع الوقت ثبت أنها أثّرت سلبا على الأثر.
قادنا الأخصائي إلى معمله لاستكمال عمله، وانهمك في تنظيف قطعة أثرية بمساعدة عدسة مكبرة من حجم كبير، مشيرا إلى أنه بعد الحصول على نتائج التحاليل والفحوص يتم تثبيت القشور المنفصلة ثم البدء في أعمال التنظيف الميكانيكي والكيميائي وإزالة الترميم السابق، إذا كان لا يتناسب مع الأثر ونوعيته ثم يتم حشو الشروخ وتقوية الأماكن الضعيفة.
وأشار إلى أنه بعد الانتهاء من هذه المرحلة تدخل القطعة الأثرية مرحلة التعقيم ويتم تغليفها بأوراق، خاصة بالآثار يتم استيرادها من اليابان استعدادا لوضعها بعد ذلك في دواليب العرض.
ويعتبر معمل الميكروبيولوجي من أهم المعامل العلمية، لأنه يختص بعلاج الأثر والحفاظ على حالته وحالة من يتعامل معه، فالأثر تحدث به أحيانا إصابات أو عدوى قد تفتك به مع الأيام.
وأكد عبدالعال محمد، أخصائي ترميم، الدور المهم للمعمل في تلك الحالة، ويتم القضاء على الإصابة أو وقفها حتى لا تتطور، وبعد العلاج يقدّم المعمل توصيات لكيفية حماية هذا الأثر من التعرض لإصابات أخرى مماثلة في المستقبل، وتتم متابعته بصورة دورية.
ويضم معمل الميكروسكوبات الضوئية المتخصصة مجموعة من أحدث أجهزة الميكروسكوبات الضوئية، وفحص العيّنات في هذا المعمل تعدّ المرحلة الأولى من مراحل التحليل.
وقال عبدالعال، “إن نوعية العيّنات التي يتم فحصها، أخشابا أو فيبرا أو أحجارا أو معادن، تحدّد نوع الميكروسكوب المستخدم، وهناك نوعان من العيّنات تدخل أجهزة المعمل، العيّنات التي يتم تحضيرها والعيّنات الخام. وأوضح أن هناك معمل الميكروسكوب الإلكتروني الماسح، أحد المعامل التي تفحص العينات الأثرية وتكبرها لمعرفة مكوّنات الأثر وكيفية صنعه، وبناء على هذه التحاليل يضع المرمم خطة العلاج والترميم، فقد تكون لكل طبقة طرق علاج وترميم مختلفة وهذه العملية تستغرق من شهر إلى خمسين يوما.
|
أما معمل الأشعة السينية، فيحدد نوع المادة المصنوع منها الأثر، كي يعطي للمرمم فكرة عن تركيب الأثر نفسه، بالتالي يمكنه أن يحدد نوعية المواد التي سوف يستخدمها في تنظيف الأثر أو ترميمه، بالإضافة إلى أنه قد يقدّم معلومات تعطي أدلة أثرية جديدة.
هوية خالصة
من المنتظر، طبقا لتصميم المشروع، أن تكون واجهة المتحف بوابة مُثلثة عملاقة تقود إلى الباحة الرئيسية للمتحف.
لكن ذلك الشكل الهندسي واجه العديد من الانتقادات وتم رفع دعوى قضائية لوقف أعمال بناء المتحف لطمسه هوية الحضارة المصرية وتصميمه تم على هيئة “نجمة داوود” لإيجاد شرعية وسند تاريخي لبني إسرائيل على الأراضي المصرية، وفقا لما جاء بالدعوى التي تم رفضها.
ولفت طارق توفيق إلى أن تلك المزاعم ليس لها أي أساس من الصحة، ولا يوجد في التصميم شكل “للشمعدان السداسي” أو “نجمة داوود”، ونظرا لوقوع المتحف أمام أهرامات الجيزة واجهته قائمة على شكل مثلثات، تنقسم إلى مثلثات أصغر في إطار رمزي للأهرامات، وتم اختيار التصميم في مسابقة عالمية من خلال لجنة بها نخبة من الخبراء وأساتذة الآثار المصريين، ويحكي عن “الهوية والأبدية بمصر القديمة ” ولا علاقة له بقصة خروج بني إسرائيل من مصر.
وشرح توفيق لـ “العرب” أن واجهة المتحف ارتفاعها خمسة طوابق لكي تتوافق مع ارتفاع “هرم خوفو” وحوائطه تكسوها حجارة “الألباستر” الشفافة وتضاء ليلا ليتمكّن الجميع من رؤيتها من كل أنحاء القاهرة، ويتصدر الواجهة تمثال الملك رمسيس الثاني الذي تم نقله مؤخرا من ميدان رمسيس بوسط القاهرة ليكون أول ما يشاهده الزائر عند دخوله.
أما عن طريقة العرض، فقد حرص القائمون على المتحف على أن تعطي إيحاء بالبيئة الطبيعية للعصر الذي ينتمي إليه الأثر وسوف تحمل كل سمات العقيدة الدينية الخاصة بالملك والشعب.
وكان الملك قائدا للجيش ورئيسا لكهنة كل الآلهة في كل معبد، والوسيط بين الآلهة وشعب مصر، ووجوده صلة بين السماء والأرض وأرواح الموتى.
ويقوم العرض المتحفي على فكرة أن يبدأ الزائر بمشاهدة القطع الأثرية أثناء صعوده على “الدرج العظيم”، وهو الطريق الموصل لقاعات الملك توت عنخ آمون، وعلى جانبي الدرج سيتم وضع تماثيل ضخمة لملوك العصور المختلفة، لتوضيح التواصل الحضاري على مدى الآلاف من السنين من الحضارة المصرية القديمة.
|
بجانب التماثيل سيتم عرض توابيت ضخمة وعناصر معمارية من المعابد توضح ضخامة الأبنية التي أقامها المصريون لحكامهم، وعند الصعود لآخر درجات “الدرج العظيم” سيكون الزائر وصل إلى الواجهة الزجاجية التي يصل ارتفاعها إلى 25 مترا وتطل على الأهرامات الثلاثة.
وتقسيم قاعة الملك الذهبي التي يصل إليها الزائر، سوف يكون مستوحى من تخطيط مقبرته الأصلية في “وادي الملوك” بالأقصر جنوب مصر، وهي مكوّنة من 4 حجرات ويتم فيها عرض ثلثي قطع مقبرة توت عنخ آمون بشكل كامل لأول مرة، وهو ما يشكل عنصر جذب عالمياً كبيراً.
ويقدّم معلومات كثيرة عن الخلفية الاجتماعية والسياسية والدينية للملك، ويتم عرض قطع جنائزية، وأخرى تشير إلى فكرة البعث والإحياء، وثالثة دلالة عن هوية الملك وأسرته، وقطع معبّرة عن أسلوب الحياة وموضة العصر، ومنها بقايا ملابس الملك وطريقة ارتدائه إياها، مع شرح واف لطريقة الصنع.
الزيارات المتكررة للمتحف لن تصيب أصحابها بالملل، لأن الزائر كل مرة سيزور فيها المتحف قد تقع عيناه على قطع أثرية جديدة، لأن المتحف يستوعب 50 ألف قطعة أثرية للعرض الدائم، وهناك أيضا 50 ألفا في المخازن لاستخدامها في قاعتين مخصّصتين للمعارض المتغيرة، ولن يكفي الزائر أقل من أسبوع ليستطيع مشاهدة جميع المعروضات.
وأكد أحمد الصاوي، مرشد سياحي، أن المتحف سيكون عنصرا جاذبا لأنواع جديدة من السياح، منهم المهتمون بالجيولوجيا في مصر القديمة، والمهتمون أيضا بالتكنولوجيا.
وأضاف أنه سيكون بمثابة نقطة التقاء مجتمعي لأبناء الشعب المصري بجانب كونه مزارا سياحيا، له دور تكميلي مع المدرسة أو الجامعة، ليستكمل الشباب المصري المعلومات الكافية عن آثارهم.