المؤسسية والثقافة ستقودان العالم ليصبح أكثر ثراء

غالبا ما ينظر إلى تقدم الغرب وتفوقه الاقتصادي بشكل سطحي، حيث يقع تناسي قرون من ثقافة العمل والتوجهات الفكرية التي قادت إلى بناء مجتمعات أكثر معرفة ووعيا وتعليما، وهي مجتمعات تؤمن بالعمل وترحب بريادة العلم واتصاله بالتكنولوجيا، ما جعلها تخلق بيئة حضارية متكاملة، ليس الاقتصاد فيها معزولا عن الثقافة والمجتمع.
وفاء الريحان
شهد القرنان الماضيان نمواً اقتصادياً أكثر من أي فترة في التاريخ البشري، مما أسهم في تخفيف الفقر الذي لا يزال تعاني منه نسبة كبيرة من سكان العالم، لذلك، بات النمو محط اهتمام الدراسات الحديثة، ولا يعني ذلك إغفال جوانب أخرى للتنمية البشرية كالصحة والتعليم وتمكين المرأة، وحماية الفئات الضعيفة، فكلها عوامل أساسية لوجود مجتمع سعيد وعادل، لكن كل هذه الميزات لن تصبح ممكنة إلا بفضل النمو الاقتصادي، على جانب آخر، فإن التحديات العالمية الراهنة، كتغير المناخ والاستقطاب الاجتماعي وغيرها لن يُسجِّل فيها أي تقدم من دون النمو الاقتصادي الذي يوفِّر الموارد والتقنيات الجديدة اللازمة لمواجهة هذه التحديات.
من هنا، سعى الباحثان الاقتصاديان مارك كوياما وجاريد روبين إلى تأكيد تلك الرؤى عبر كتابهما “كيف أصبح العالم ثرياً: الأصول التاريخية للنمو الاقتصادي”، إذ يتعرض الكتاب للنظريات التي تحدَّثت عن النمو، والمراحل التي مر بها الجزء الغني من العالم، حتى وصل إلى درجة من التقدم، وكيف لحقت بالركب الأجزاء الأخرى التي لم تساير موجات التحول الأولى مع الثورة الصناعية، وأخيراً، استشرف الكتاب مستقبل النمو وانتشاره في باقي الأجزاء غير المستفادة في دول العالم.
مداخل النمو وبداياته

الكتاب يتطرّق إلى نظريات النمو والمراحل التي مر بها الجزء الغني من العالم حتى وصل إلى التقدم
يتحدث الكاتبان في الجزء الأول من الكتاب عن عدد من المداخل والنظريات التي يمكن من خلالها تفسير عمليات النمو الاقتصادي عبر مراحل تطور الاقتصاد الحديث.
أول هذه المراحل المؤسساتية، فالمؤسسات هي محور التركيز في نظرية النمو بما توفِّره من أطر تنظيمية وتسهيلات للعملية الاقتصادية وتأسيس نظام قانوني، فالمؤسسة تُحدد القواعد الرسمية لآليات عمل الاقتصاد، لذلك، فإن المجتمعات التي تتمتع بسيادة للقانون تميل إلى أن تُحقق نتائج اقتصادية إيجابية، إلا أن ذلك يتطلب أموراً أساسية كالمساواة القانونية بين الأفراد سواء أكانوا حكاماً أو محكومين وأن تكون القوانين مستقبلية ومفتوحة وواضحة، ومستقرة، كما يكون صنع القوانين مفتوحاً ومسترشداً بقواعد غير شخصية، أضف إلى ذلك، أن يكون القضاء مستقلاً سياسياً والمحاكم متاحة الوصول للجميع، وأخيراً، أن تكون القواعد عامة وتطبق بشكل موحد، ومثل هذه الظروف تقلل عدم اليقين، وبالتالي تزيد الاستثمار وتحفز التبادل.
المرحلة الثانية هي الثقافة، تلعب القيم دوراً في تحفيز الإمكانات الاقتصادية للمجتمع، فيصعب أن ينطلق المجتمع اقتصادياً من دون قيم تشيد بالعمل الجاد والمخاطرة وتراكم الثروة، ويجادل الباحثون بأن هذه القيم كانت ضرورية لإقلاع شمال غرب أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ووفقاً للنظرية التي تربط الثقافة بالنمو، فإن من العوائق الأساسية أمام النمو الاقتصادي في التاريخ الطريقة التي يفكر بها الناس، ويتحدثون عنها بشأن العمل والربح.
بالنسبة إلى اليونانيين والرومان القدماء، على سبيل المثال، كان العمل من بين المساعي الأقل قيمة، بالتالي كانت الطبقات المتوسطة والبرجوازية ذات مكانة قليلة في المجتمع القديم، فمجتمع بهذه القيم الثقافية من غير المرجح أن يكون لديه نمو اقتصادي مستدام، حيث إن الابتكار التكنولوجي ضروري لاستمرار النمو على المدى الطويل، لكنه يتطلب معرفة تفصيلية بعمليات الإنتاج، وما يمكن أن يجعل الإنتاج أكثر كفاءة، لذا فمن الصعب أن يكون لدى أي مجتمع يستهجن العمل الجاد طبقة قوية من المبتكرين.
وفقاً للنظرية التي تربط الثقافة بالنمو فمن العوائق الأساسية أمام النمو الاقتصادي الطريقة التي يفكر بها الناس
وثمة عنصر ثقافي آخر قد يؤثر على النمو الاقتصادي هو الدين، فبينما تجنب علماء الاجتماع إلى حد كبير النظريات التبسيطية أو العنصرية التي تنص على أن ديانات معينة هي السبب وراء تقدم بعض المجتمعات أو تخلف أخرى، تشير الأبحاث الحديثة إلى أن هناك طُرقاً قد يؤثر بها الدين على النمو الاقتصادي، منها، الحث على التعليم، والتأثير في تكوين الأسرة وتنظيمها، والمشاركة السياسية، وبينما ربط ماكس فيبر بين الأخلاق البروتستانتية والتقدم الاقتصادي، فإن الدراسات تشير إلى ميزة أساسية تتعلق بحرص البروتستانت على التعليم كمدخل للنمو الاقتصادي.
في عام 1700، لم يُظهر أي اقتصاد في العالم دلائل على أنه قادر على النمو المستدام الذي يتضمن تغيرات هيكلية في الاقتصاد، تتمثل في الابتعاد عن الزراعة والتوجه نحو الصناعة والخدمات، ثم جاءت الثورة الصناعية في بريطانيا لتشكل نقطة انطلاق رئيسية على طريق الاقتصاد الحديث، وأشار الكتاب إلى أن بريطانيا بدأت التصنيع منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وتبعتها الولايات المتحدة، وعدد قليل من الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك العديد من الشروط المسبقة للنهوض الاقتصادي لأوروبا قد ظهرت في فترة القرون الوسطى التي مهدت الطريق لنهضتها.
في هذا الإطار، هناك عدة عوامل تفسر أسباب التحول في شمال غرب أوروبا عن بقية العالم منها، ظهور شبكات التجارة الأطلسية والتطورات الثقافية والدينية، والتي ربما كان أهم جوانبها هو الإصلاح البروتستانتي، الذي ساعد على ضمان ظهور المؤسسات التمثيلية في شمال غرب أوروبا، ويمكن إرجاع العديد من التطورات المؤسسية التي ميزت أوروبا الحديثة عن أماكن أخرى إلى ظهور المؤسسات التمثيلية، ودول المدن، وإعادة اكتشاف القانون الروماني، والفصل بين الدين والدولة، فضلاً عن التحولات الديموغرافية وخروج المرأة إلى العمل والاتجاه نحو الأسرة النووية.
ثورتان صناعيتان
أكد الكاتبان أن أهم تغيير اقتصادي أحدثته الثورة الصناعية هو تغير هيكل الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة، وثمة دلائل على بدء هذا التحول قبل الثورة الصناعية؛ حيث ترك العمال الزراعة والصناعات التقليدية وانتقلوا إلى التصنيع والصناعة، فكانت نسبة العمال الإنجليز في الزراعة بحلول عام 1851 حوالي 23.5 في المئة مقابل 45 في المئة من القوى العاملة الصناعية، مع ذلك، يتحدث الكاتبان عن وجهتي نظر متعارضتين إزاء تلك التحولات.
النظرة الأولى متشائمة، وقد ندد أنصارها بالطبيعة اللاإنسانية للعمل الصناعي، والتلوث الناتج عن المصانع، معتبرين أنها فترة تميزت بـ”الاستغلال المكثف وانعدام الأمن والبؤس البشري”، ورأى أنصار هذه النظرية أن هناك ركوداً في الرواتب الحقيقية خلال السنوات الأولى من الثورة الصناعية لعدة أسباب: أولاً، بفعل القوى المالتوسية، فمع زيادة عدد السكان أصبحت هناك ضغوط هبوطية على الأجور الحقيقية، وثانياً، الحرب الأنجلو – فرنسية التي استمرت حتى السنوات الوسطى للثورة الصناعية، حيث أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية؛ مما أدى إلى انخفاض الدخل المتاح للعمال، وثالثاً: كان التغيير التكنولوجي في هذه الفترة بشكلٍ عام موفراً للعمالة، مع غياب النقابات العمالية، وهو ما أدى إلى انخفاض حصة العمال من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأولى للثورة الصناعية، وكانت النتيجة زيادة عدم المساواة، حيث ذهبت غالبية مكاسب الدخل إلى أصحاب الأرض ورأس المال بدلاً من العمال.
ثانيا النظرة المتفائلة، ويرى أنصارها أن القوى المحركة للاقتصاد والمسؤولة في البداية عن عدم المساواة وركود الرواتب، ستنتج لاحقاً اقتصاداً ترتفع فيه مستويات المعيشة بطريقة مستدامة للجميع، وقد صحت تلك الرؤى بدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والحديث عن مسببات تلك التغيرات يقود إلى مناقشة الثورة الصناعية الثانية.
من الصعب أن ينطلق المجتمع اقتصاديا من دون قيم وثقافة تشيد بالعمل الجاد والمخاطرة وتراكم الثروة
أشار الكاتبان إلى أنه تم بناء معظم التطورات التكنولوجية الرئيسية على قاعدة المعرفة العلمية منذ سبعينات القرن التاسع عشر، حيث أطلق العلماء على هذا التحول “تزاوج العلم والتكنولوجيا” أو ما يُعرف باسم الثورة الصناعية الثانية، إذ مهدت الاختراعات الجديدة في الطب والمواد الكيميائية والطاقة الطريق إلى المزيد من الاختراعات، فضلاً عن التحسينات على الاختراعات القائمة، كما أتاحت المزيد من الاكتشافات العلمية، ومن ثم أثرت تقنيات الثورة الصناعية الثانية على جميع الصناعات تقريباً، فعلى سبيل المثال، حدثت ثورة في النقل، إذ أصبحت السكك الحديدية أكثر كفاءة وأقل تكلفة بسبب الفولاذ الأرخص والأكثر متانة.
وعلى عكس الثورة الصناعية الأولى، أوضح الكاتبان أن التعليم لعب دوراً حاسماً في الثورة الصناعية الثانية، إذ سرَّع من الانتشار التكنولوجي، فهناك فرق بين وجود نسبة كبيرة من السكان قادرة على القراءة والكتابة، ونسبة صغيرة من السكان متعلمة على مستوى عالٍ، حيث يُشار إلى الأخيرة باعتبارها رأس المال البشري الذي قاد تسريع معدل الابتكار في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، وكانت الثورة الصناعية الثانية هي الفترة الأولى التي أدى فيها التكامل بين رأس المال والمهارات إلى دفع التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، إذ كانت الأماكن التي لديها قوة عاملة أكثر تعليماً وعرضة لتبني وتنفيذ تقنيات جديدة، بينما المناطق ذات معدلات التعليم المنخفضة لم تكن مستعدة للتكيف مع العالم الجديد.
على جانب آخر، اعتبر الكاتبان أن الثورة الصناعية الثانية كانت مسؤولة عن الارتفاع المستمر في مستويات المعيشة على العكس من نظيرتها الأولى، فقد كانت الديموغرافيا من أهم العوامل التي عرقلت مستويات المعيشة خلال الثورة الصناعية الأولى، فمع ازدياد معدلات الخصوبة بسبب تحسن الفرص الاقتصادية والتحضر، وانخفاض متوسط العمر عند الزواج الأول كانت النتيجة زيادة عدد السكان، التي أدت إلى ضغوط هبوطية على الأجور، ويتقارب ذلك مع ما ذهب إليه “مالتوس”، في كتاباته عن السنوات الأولى من التصنيع، بأن النمو الاقتصادي غير قادر على درء الكارثة الديموغرافية، لكن الثورة الصناعية الثانية كشفت عن خطأ تنبؤات مالتوس الذي لم يتوقع بشكل كامل إلى أي مدى سيسعى المتزوجون للحد من عدد أطفالهم مع خروج المرأة إلى العمل، وطبيعة عملية الحداثة الثقافية.
المتأخرون عن النمو
وفقاً للكتاب، خلق ظهور النمو الاقتصادي الحديث فرصاً هائلة لما يُسمى “نمو اللحاق بالركب” في المجتمعات الأخرى غير الغربية، لكن هذه الفرص كان من الصعب اغتنامها، فلم تكن كل المجتمعات قادرة على الاستفادة منها، فبعضها مستعمرات، وبالتالي غير قادرة على تنفيذ سياسات اقتصادية مستقلة، كما أن البعض الآخر لا يزال لديه مؤسسات تقمع ريادة الأعمال والأسواق، أو أن المؤسسات السياسية الحاكمة فيها لم تكن قادرة على استيعاب التغيير التكنولوجي السريع.
لهذه الأسباب، نجد أنه بينما توسع الاقتصاد العالمي بشكل كبير بعد عام 1800 وانتشرت الابتكارات التكنولوجية في جميع أنحاء العالم، كانت وتيرة النمو متفاوتة، إذ ظلت الهند وجزء كبير من أفريقيا يقتربان من “اقتصادات مالتوس”، التي يتم بها استيعاب الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي في النمو السكاني، حيث كان دخل الفرد قريبا من مستوى الكفاف، أما في المستعمرات الاستيطانية مثل الأرجنتين وأستراليا ونيوزيلندا التي كانت غنية بالأراضي والموارد وقليلة السكان فقد ظهرت علامات قليلة على النمو المستدام في دخل الفرد في منتصف القرن التاسع عشر.
وكانت اليابان أول دولة غير غربية تحقق نمواً اقتصادياً سريعاً، واستند ذلك إلى تغيير في المؤسسات السياسية التي كانت تعتمد في البداية على دخلها في أسواق المنسوجات الدولية، لكن في وقت لاحق انتقلت الشركات اليابانية إلى الحديد والصلب والتصنيع، واستطاعت دول شرق آسيا الأخرى التي تتمتع بقدرات مماثلة مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ أن تتبع المسار الياباني نفسه، وبعد تجربة التخطيط المركزي الشيوعي في الصين، أمكن تنفيذ النموذج الياباني على نطاق أوسع مع دور أكبر للحكومة والشركات المملوكة للدولة، وهو ما يعني أن آسيا، التي تضم حوالي 60 في المئة من سكان العالم، أضحت في طريق الثراء والتنمية، بعد أن كان الغرب الذي لا يُمثل سوى نسبة ضئيلة من سكان العالم حوالي 10 – 15 في المئة هو الأكثر ثراءً.
على جانب آخر، اعتبر الكتاب أن الاستعمار الغربي أسهم في تأخير لحاق بعض الدول بركب التنمية الاقتصادية، حيث لا تزال أجزاء كثيرة من العالم المستعمر سابقاً قابعة خلف الاقتصادات الرائدة في العالم، وهو ما يشمل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا وأجزاء من أميركا اللاتينية.
ختاماً، أكد الكاتبان أن العالم أصبح الآن أغنى مما كان عليه في أي وقت مضى، بل من المرجح أن يصبح أكثر ثراءً في المستقبل المنظور، مما يعني انتشال المزيد من البشر من الفقر، لاسيما وأنه لا يزال هناك حوالي مليار شخص في فقرٍ مدقع يعيشون في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأميركا اللاتينية وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا، وهي المهمة التي ستقع على عاتق الجيل القادم من البشر.
* المقال مأخوذ عن مجلة المستقبل للدراسات والأبحاث