"الله فقط في رمضان"

حتى لا نظلم نوايا الناس، يبقى الفرق بين الدين والتدين في العالم العربي ملغوما بطقوس وادعاءات أكثر من كونه سلوكا نابعا من قناعة حقيقية.
الخميس 2025/03/27
بين الدين والتدين

يشهد شهر رمضان في المغرب ظاهرة سنوية متناقضة، حينما تمتلئ المساجد عن آخرها وتمتد صفوف المصلين إلى الشوارع والأرصفة وكأن العبادة لا تكتمل إلا وسط زحام شديد، ويتنافس الناس على الصفوف الأولى في صلاة التراويح ويتسابقون على ختم القرآن أكثر من مرة، بينما في الأيام العادية تبقى المساجد شبه فارغة إلا من قلة قليلة منهم الإمام والمأمون، إذ يتحول الأمر إلى مشهد أشبه بموسم ديني مؤقت يختفي فيه الالتزام بعد انتهاء الشهر الفضيل، وكأن الله موجود فقط خلال هذه الفترة.

وتغمر النساء المساجد بهستيريا مخيفة فتراهن يهرولن بعد الإفطار مباشرة إلى المساجد، وتبدأ صفوفهن بالامتداد إلى الشوارع في مشهد فوضى مقلق، تتداخل فيه الصفوف مع الرجال ويحدث لغط أثناء الصلاة، كما تنشغل بعض النساء بالحديث أو بمراقبة أزيائهن، وكأن الهدف من التواجد في المسجد ليس الخشوع، بل الاندماج في الطقس الرمضاني الجماعي، ويتكرر هذا المشهد 30 يوما ثم يختفي بانتهاء الشهر، وكأن الصلاة في غير رمضان غير مطلوبة أو غير ضرورية.

وتغزو الأسواق العشوائية الشوارع مع بداية الشهر الكريم، وتمتلئ الأزقة والطرقات بالباعة الجائلين الذين يعرضون كل شيء بأسعار مضاعفة، فيتحول رمضان إلى فرصة تجارية مربحة، عندما يحتكر التجار السلع الأساسية ويرفعون الأسعار دون رحمة، مستغلين حاجة الناس للطعام والشراب، ويجسد هذا المشهد تناقضا صارخا، فيتحدث الجميع عن الرحمة والتقوى، بينما تمارس الأسواق أبشع أنواع الاستغلال والجشع.

وتعلو أصوات المقرئين في البيوت والمساجد ويتنافس الناس على ختم القرآن، لكن المفارقة أن كثيرا منهم لا يطبقون تعاليمه في حياتهم اليومية، فيقرأ البعض القرآن في النهار ثم يغشون في البيع والشراء، أو يسيئون معاملة الآخرين في المساء، ويتحول التدين إلى ممارسة شكلية يتم فيها التركيز على أداء الطقوس، بينما تغيب القيم الحقيقية التي يدعو إليها الدين، مثل الصدق والأمانة والتسامح وحسن الظن بالآخرين.

وتنتهي كل هذه المظاهر بمجرد إعلان عيد الفطر، فتعود المساجد إلى فراغها وتختفي صفوف المصلين الممتدة، ويعود الكثيرون إلى عاداتهم السابقة وكأن شيئا لم يكن، ويتكرر هذا الروتين كل سنة في تزايد واعتباطية وازدراء، وهذا يطرح تساؤلاً جوهريا: هل التدين مجرد عادة موسمية، أم أنه يجب أن يكون أسلوب حياة مستمرا؟ إذا لم يغير رمضان سلوك الناس نحو الأفضل، فما فائدته إذن؟

ويتخذ بعض العشاق من صلاة التراويح ذريعة للقاءات رومانسية بعيدة عن أعين الأهل، حيث يتواعدون بحجة الذهاب إلى المسجد، بينما الحقيقة أنهم يبحثون عن لحظات خاصة بعيدا عن الرقابة، فحتى النساء يجدن في المساجد مهربا من أعباء المطبخ اليومية، ويفضلن قضاء الوقت بين الصلوات والدعاء بدل الوقوف لساعات طويلة خلف الأفران. هكذا تتحول بعض العبادات إلى مناسبات اجتماعية، ليكون الهدف الحقيقي بعيدا تماما عن التقرب إلى الله، ومجرد استغلال للظرف الديني لأغراض شخصية.

وحتى لا نظلم نوايا الناس، يبقى الفرق بين الدين والتدين في العالم العربي ملغوما بطقوس وادعاءات أكثر من كونه سلوكا نابعا من قناعة حقيقية، فأين التدين من المكر والخداع والاستغلال والنصب والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل؟ إذا كان التدين لا يمنع انتشار هذه الصفات، فلماذا يتمسك البعض بالشعائر دون أن ينعكس ذلك على أخلاقهم؟ عدد حالات الغش والظلم في المجتمعات العربية يفوق ما يوجد في بلاد يصنف أهلها كفارا، فكيف نبرر هذا التناقض؟ هل التدين في صيغته الحالية مجرد وسيلة لإبقاء الشعوب غارقة في الطقوس، ومنعها من التحرر نحو وعي صافٍ ونية خالصة في العيش بنزاهة وصفاء، خالٍ من النفاق والخداع؟ إذا كان الدين دعوة للصدق والاستقامة، فلماذا لا نرى أثره في السلوك اليومي، إلا في حدود المظاهر والتقاليد الموسمية؟

ويرتكز الإسلام على قيم السلم والسلام، لكنه في المجتمعات العربية والمجتمع المغربي بعيدا عن هذه المبادئ، إذ تطغى الصراعات الاجتماعية والفكرية والطائفية على المشهد العام، بينما يستغل بعض الكارهين للأديان سذاجة الشعوب وانشغالها بالطقوس الشكلية لتمرير أجنداتهم العلمانية والليبرالية، أو لإشعال فتيل الفتنة الطائفية؛ في المغرب مثلا يكثر هؤلاء، فمنهم من يطالب بحظر الدراسات الإسلامية من الجامعات بحجة أنها سبب التخلف، وغالبا ما يكون هؤلاء من تخصصات الفلسفة، ومنهم من يسعى إلى دس الثقافة اليهودية في الهوية المغربية تحت ذريعة أن الأمازيغ يهود الأصل، لكن الحقيقة التي يغفل عنها الجميع أن الإسلام ليس مجرد دين أو تدين، لأنه حضارة متكاملة ترفض هذه الصراعات المصطنعة، وتدعو إلى التسامح والعدل والوعي الحقيقي بعيدا عن الاستغلال والتشويه وما تروج له القنوات الدينية نفسها.

18