اللغة ليست مجرد كلمات للتواصل مع الآخرين

رغم أنه مقل في النشر فقد آثر الشاعر العماني إسحاق الخنجري ألا يفارق التأمل والعزلة والانكشاف على الحياة بطرق شتى، ذلك كله يدثر عنده بحديث الصحراء الذي أثث رسالته العملية نحو الأدب ومقتضياته. في ما يلي حوار مع الشاعر حول عوالم قصائده ورؤاه الأدبية والثقافية.
خميس الصلتي
مسقط - يأتي الشاعر العُماني إسحاق الخنجري ليطل على ضفاف الشعر محملا بقلق الكتابة وخدعة ضوء حروفها، ليكون ذا سكون صاخب وصمت مبهر، ولأن الخنجري شاعر قليل النشر والحضور، فهو يفضل الركون إلى الظل في مقابل الضوء، وهذا ما أوجده في سياق الإبداع من خلال ديوان “وحده قلقي”، الذي صدر في 2009، وعمله الشعري الجديد “خديعة قوس قزح”، ضمن إصدارات كتاب مجلة “نزوى” 2022.
يفسر الخنجري صمته الطويل وتأخره عن النشر قائلا “أعتقد أنني صمت كثيرا وآن الأوان أن أنشر هواجسي الشعرية التي تنتصر إلى واقع ملتهب وجراح ملتهبة، تلك التي حملتها لأزمنة طويلة جدا، والتي أصبحت بسببها مصابا بالعزلة والتأمل والانكشاف على الحياة بطريقة أخرى”.
الشعر لغة الحلم
يقول الشاعر “حقيقة في ظل هذا الصمت الطويل اكتشفت أشياء كثيرة، أهمها أن الشعر يولد من الصمت وليس من الضجيج، وهذه رؤيتي الخاصة، وأنتمي إليها كثيرا وأغرسها وأعززها بين أصدقائي، ولطالما تحدثت في كثير من الحوارات أن الصمت يوقظ الشعر ويجعله أكثر حيوية وإصغاء لأصوات الوجود، فالكتابة نوع من الفناء في عالم غير مرئي لمحاولة إدراك ما خلف ضباب الواقع والأشياء، ولهذا في مجموعتي الجديدة ‘خديعة قوس قزح’ يبدو أنني تعرفت على كائنات أخرى أكثر حميمية وتشاكسا”.
يشكل الصمت والغياب صفة عامة تسيطر على عموم التجربة الشعرية إلكترونيّا عند إسحاق الخنجري، في ظل وجود الكثير من الحسابات والصفحات التي تحمل أسماء أدبية وكتابية كبيرة أوجدت لها مساحة من خلال هذا النشر، وهنا يقول “أشعر أنني من الكائنات الصامتة التي تستكين في ركن قصي لتؤثث إدراكها المعرفي ووعيها بمرايا العالم، لهذا كلما تسامى الصمت أزهو معه وأتمدد، وهذا لا يعني أنني أدعو إلى الابتعاد عن مجالات التواصل الاجتماعي، ولكنني ضد الفوضى التي تخلق ملامح مظلمة في الذهن، وضد كل ما هو خارج نطاق الحوارات الحيوية”.
ويتابع “حقيقة شعرت أنني غريب جدا في هذه المواقع، ربما الخلل في ذاكرتي، فهي مكتظة بألوان الصمت القاتمة، تلك التي تعبر عن قوة الذكريات في المخيلة ومدى طغيان الماضي بعنفوانه وجراحه لدرجة عدم المقدرة على الانسجام مع مشاهد لا تضيف غير التعب والشتات، وأحسب أنني لا يمكن أن أمتزج مع عوالم زرقاء مهشمة في داخلها على الغالب”.
من خلال نصوص الشاعر الأخيرة المنشورة في الصحافة وعمله الشعري الأول، نجد حضور وقع الحب والموت، وهنا يوضح إلى أي حد يمكن للشاعر أن يتماهى أو أن يتشكل بين هذين الوقعين ويقول “أنا ملتبس تماما بهذين الثيمتين أكثر من غيرهما، بسبب تأثري الكبير في طفولتي بمنزل يقع بين مفارقتين غريبتين، أمامنا فلج يجري بعذوبة لا متناهية تعرفت عبره على الوجه الهامس للحياة، وخلفنا مقبرة عظيمة يسرح فيها الأموات بكل حرية واتقاد، رأيت خلالها كيف تغدو الجثث فجأة سرابا ورمالا، ولهذا بدأ قلقي غريبا جدا، كيف يتعذب البشر باكرا في الأحلام ويخفون في دمائهم كثيرا من قوارب الوهم”.
ويرى الشاعر أن أعظم مفارقة في الحياة هي ثنائية الحب والموت؛ لأنهما بلا موعد ولا زمن، هكذا يطلان في العُمر دون أن ندري حضورهما، ولا حتى ماذا يعني أن ينفجر بركان الحب فجأة أو أن يسقط نيزك الموت فجأة أيضا، وهذا ما دفعه إلى أن يستدرج وعيا آخر للكتابة عن هذه الثنائية المضطربة في حياة الكائن البشري.
الشاعر يرى أن أعظم مفارقة في الحياة هي ثنائية الحب والموت، لأنهما بلا موعد ولا زمن، هكذا يطلان في العُمر دون أن ندري حضورهما
يتحدث الخنجري عن اللغة وقدرته على تجاوز قاموسه الاعتيادي والذهاب به نحو فضاءات أكثر رحابة، وعن قدرة القصيدة في التماس مع مكونات المكان ومحاولة استنطاقه من خلال لغة أكثر إشراقا وشفافية، وهنا يجيب “اللغة مجرة كبيرة، وعلينا أن نصطفي ما فيها من خزائن ومكنونات؛ كي نظفر ببريقها وأسرارها، ويعتقد الكثيرون أن اللغة مجرد كلمات من أجل التواصل بها مع الآخرين، ولكنها ليست كذلك، فهي قدرة أخرى على محادثة الأرواح الخفية، ولهذا فاللغة الشعرية هي الكلام الحلمي لما يدور في أعماق القلب والجسد، وفيها نعيد تشكيل ما لا يمكن ملامسته تماما وتخيله أيضا، وبمقدورها أن تحررنا من الواقع الذي نسكنه ونرتع فيه، وتجعلنا كالطيور الهائمة في المطلق، وبإمكانها أن تجعلنا مرتبكين أمام المكان ومداراته، ولا نكف عن تخيل ما يدور في أعماقه من أشياء”.
وعن كيفية مواجهة الشاعر للوحدة ورعب الزمن وقسوة المجتمع، كما قال يوما في رثاء القاص والأديب عبدالعزيز الفارسي، يقول “لا يمكن مواجهة الزمن إلا بطاقة الأحلام، لأن الإنسان كائن حالم باستمرار، ويترحل من وقت لآخر، ولا أعني هناك التنقل المكاني، بل القدرة على خلق فكر وهاجس مختلف في مراحل العمر؛ لأن الزمن مادة سائلة تتبخر بسرعة وتنفلت بخفة من الوجود، ولهذا فالمعضلة الحقيقية للإنسان هي الزمن، وليس المكان، المكان سهل استبداله، ولكن الزمن لا يمكن الإمساك به، فهو يحدس فينا دون أن نشعر”.
ويضيف “أظن أن أكبر كارثة للإنسان أن يصطدم بالزمن دون أن يشعر أو يضع مزيدا من أحلام مجهولة لمواجهته، خاصة الإنسان ذا الإدراك المختلف عن ثقافة السائد، ذلك الذي ينظر إلى الحياة بعيني نسر، لا بد عليه أن يغرق روحه في نهر الأحلام حتى لو كانت خيالا، وأحسب هذا المخرج الوحيد لإنسان كتب عليه على الدوام أن يعيش محنة المعرفة والوعي”.
الحداثة والغموض
الشعر لغة تلامس الواقع بخفة وشفافية كي لا تتحول إلى تنظيم أحداث ومشاهد فهذه خاصية النثر
في رسالته “الصحراء في الشعر العُماني الحديث” حاول الخنجري استقراء ملامح الصحراء وانعكاساتها في القصيدة العُمانية الحديثة، وهنا يشير إلى أي مدى يمكن أن يسكن هذا المكان الاستثنائي ودلالاته بوصفه واقعا متحركا قابلا للتأويلات الكثيرة، ومدى تأثر الشعراء بهذا الواقع، يقول “الصحراء في امتدادها البعيد وسكونها الهامس أكبر غواية للشعراء، فعند محايثتها بحثا في علاماتها الكثيرة، وجدتها ليست مكانا مقفرا خاليا من الحياة، بل امتدادا هائلا لجماليات المكان والزمن، حيث هناك ألفة واطمئنان وسكينة لدى الشعراء حين يكتبون عنها، بل إنها تجسد في كثير من النصوص دلالة الهيام في البعيد”.
ويتابع “إننا بحكم النظر الأيديولوجي نرى الصحراء واقعا جافّا وصلبا، لكنه ليس كذلك تماما في عالم الشعر، وأذكر هنا ما قاله الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت ‘ما يجعل الصحراء جميلة هو أنها تخفي واحة ما في مكان ما’، لذلك يعد البحث في الصحراء شيئا مغريا ومدهشا في الوقت نفسه؛ لأننا نعيد أرواحنا الشاردة في الهدوء العميق، ونبحث في طياتها عن شيء آخر يشبه الماء والعشب، وكأننا نبحث عن كنز فقدناه منذ زمن في مكان مهجور، وحقيقة أرى الصحراء دائما على أنها مكان للعودة إلى النفس وأسرارها الخفية وقد أشرت إلى ذلك في بحثي ‘أنها ليست مجرد كثبان رملية، بل هي موسيقى تجعل الروح أكثر إشراقا وتألقا'”.
وقال الشاعر يوما “إن المعنى الحقيقي للحداثة لا ينطلق من محاولة التجريب في بنية القصيدة وتعدد أشكالها، بل من خلال وجود فلسفة روحية عميقة في الذات الشاعرة نحو العالم كاملا”. وهنا يوضح هذا القول في ضوء خطابات الحداثة الكثيرة التي قد تتشاكل وتتقاطع تصوراتها في محاولة تقديم صورة معينة لشكل القصيدة الحديثة “بالتأكيد ما زلت محتفظا بهذا النظر، وأؤكد على أن الحداثة القادمة من تغيير أنماط الشكل ليست حداثة ولا تجدد في الهواجس، الحداثة هي ترك الروح تتعرف على أصوات العالم المختلفة وإدراك تناغمها دون سدود وجسور، ويمكن تسميتها بالحداثة الروحية، فكيف يكتب الشاعر شعرا طلائعيا وروحه مسجونة في كهف، ويعيش في مغارة عواطف بالية دثرها الزمن”.
ويضيف الخنجري “هناك كثيرون يعتقدون أن الانتقال من شكل إلى آخر يعني التجدد وهذا ليس صحيحا أبدا؛ لأن قوة الشعر في انفتاحه على الوجود واستيعابه للحياة بكل تفاصيلها ومراياها، وقوة حساسية اللغة وتوغلها في الزمن والمكان، وهذا لا يخص شكلا شعريّا بعينه، وإنما يخص التحولات المعرفية والفكرية التي تنتج روحا جديدة تعيد إنتاج المعنى بطرق شعرية مختلفة أكثر توهجا وكثافة، وأتفق كثيرا مع ما قاله الناقد المفكر السوري جورج طرابيشي ‘إن الانفتاح على الحداثة هو الذي يمكن أن يطرح على التراث أسئلة جديدة وأن يستنطقه أجوبة جديدة أيضا’؛ أي أن لا معنى للتراث دون أسئلة وأجوبة جدلية أخرى، فالحداثة جدل الذات مع الماضي والحاضر باستمرار، وكأننا نرى شجرة عملاقة تقطف ثمارها الأجيال المختلفة، وما تزال في عز خضرتها وزهوها”.
اللغة الشعرية كلام حلمي لما يدور في أعماق القلب والجسد وفيها نعيد تشكيل ما لا يمكن ملامسته وتخيله
أما عن العلاقة بين الشعر والفلسفة، وقدرة الأول على المغامرة والإبحار إلى المجهول، يشير الشاعر إلى تقاطع الشعر مع الفلسفة في قدرته على اختراق الواقع وتأمله.
ويضيف “ثمة انسجام كبير بينهما، لكن لكل منهما صوته الخاص، الشعر مجموعة قطع مبعثرة من الأوهام والأحلام، والفلسفة مجموعة قطع مرتبة من الأوهام والأحلام؛ فالشعر صوت يصدر صوتا خافتا عن الحياة وما يكمن في أعماقها والفلسفة صوت كبير ينبه الوعي بأن هناك حياة أخرى في الخارج يجب الانتباه إليها بحكمة، الشعر إيقاع الروح الخالص، والفلسفة إيقاع الإدراك المطلق، ومن هنا بدأ الترابط بينهما، حيث الشعر التماهي مع الأشياء دون إحداث ضجة عارمة بمقدار التأمل والتحايث مع الوجود، والفلسفة دائما تلح أن ينكشف الكائن البشري على العالم، وفي الأخير أرى الشعر إحداث مد هائل من الأحلام وأرى الفلسفة القدرة الخفية على استقراء تلك الأحلام”.
“الشاعر يقذف قصيدته إلى المجهول” يقول الشاعر العراقي سركون بولص، ويقول الشاعر الإنجليزي وليام ووردزورث “نبدأ بالغبطة وننتهي بالجنون والكآبة”. هنا يوضح “كيف يمكن للشاعر أن يوفق بين نفسه وبين هذه المتاهات المتشابهة والمتعددة من القراء والجمهور في رحلته مع القصيدة حتى نهايات النفق: هذا يعيدنا إلى معاناة التلقي، حيث متاهات فهم الشعر وإدراكه العميق، وهل يجب أن يكون الشعر مفهوما تماما، هنا لا بد من إدراك أن الشعر هو تلك اللغة التي تلامس الواقع بخفة وشفافية؛ كي لا تتحول إلى تنظيم أحداث ومشاهد، فهذه خاصية النثر، فالشعر يجب أن يكون غامضا وليس مبهما، فالغموض يعطي الشعر توهجا وبريقا في اكتشاف علاماته ورموزه، والإبهام يجعل الشعر جبلا صلدا يصعب التعامل معه بمرونة، ولكن على الشاعر أن يتبع توقد روحه عند الكتابة دون التفكير في التلقي أبدا، عليه أن يدرك جمرة الشعر قبل أن تخمد وتتلاشى، وعليه أن يبتعد مطلقا عمّا يسمى بالجمهور؛ كي لا يقع في شباك الكتابة النظمية الخالية من سيولة العواطف والأحلام.”