الكُتّاب تجمعهم الأسئلة ويختلفون في اختيار السبل

يعتبر الروائي الجزائري عبدالوهاب عيساوي من الأسماء الروائية التي استطاعت أن تحفر لها مكانة مميزة في المشهد الثقافي الجزائري بما كتبه من أعمال روائية تاريخية استطاعت أن تحصد جوائز بارزة وتحظى باهتمام نقدي واسع. صدر له عدد من الأعمال الروائية منها: “سينما جاكوب”، “سييّرا دي مويرتي”، “الدوائر والأبواب”، ومجموعة قصصية بعنوان “مجاز السّرو” عن منشورات بغدادي الجزائر عام 2016. “العرب” حاورت عيساوي حول أحدث أعماله ونهجه في الكتابة التاريخية.
في روايته الصادرة مؤخرا بعنوان “الديوان الإسبرطي” عن “دار ميم للنشر” في الجزائر، يتعرض عبدالوهاب عيساوي لفترة تاريخية تمتد من 1815إلى 1833، ويتطرق من خلالها إلى مسألة الوجود العثماني في الجزائر. تبدأ الرواية مع معركة واترلو على أطراف بروكسل ما بين الجيشين الفرنسي والبريطاني، والتي انتصر فيها البريطانيون، وتنتهي بخروج اللجنة الأفريقية من الجزائر، وتنسج الرواية أحداثها عبر شخصيات تتشابك مصائرها في سلسلة من الأحداث.
قراءة الراهن
يرى عيساوي أن الرواية التاريخية، كوجهة نظر، ليست إعادة حكاية قديمة، بقدر ما هي إسقاط لخطاب الراهن عليها، بحثا عن جذوره في بداياتها الأولى، ولمعرفة مآلاته. الآن، بعد أكثر من نصف قرن من استقلال الجزائر، نجد الأسئلة نفسها تتكرر، عن الهوية، الدين، الحرية، نظام الحكم وعلاقته بالناس، كيف يصنع الأوهام والأكاذيب الكبيرة باسم المقدسات لدى الناس، كي يجعل استمراره ضرورة لا بد منها. وهذا هو ما دفعه في روايته إلى العودة إلى بداية تشكل هذه الأنظمة، في محاولة لقراءة الراهن.
يتابع عيساوي “استغرق مني البحث في هذه الرواية حوالي سنة، انتقلت إلى أمكنة عديدة لمعاينتها، بحثت في بطون كتب كثيرة باللغة العربية والفرنسية، رحلات ودراسات تاريخية واجتماعية، وانطباعات جغرافيين، كتب تعنى بالعمران، وحتى روايات، أردت أن أعرف الحياة الهامشية والاجتماعية للناس، في ما يفكرون؟ وماهي أحلامهم وتطلعاتهم؟ فإن كان التاريخ يكتب عن الظروف السياسية الكبرى، فالرواية لها أن تقول ما تريده عن الظلال التي يخلفها التاريخ دون إضاءة. كما استغرق زمن الكتابة والتنقيح والمراجعات وحتى حذف الزوائد سنة أخرى.
الرواية التاريخية ليست إعادة حكاية قديمة، بقدر ما هي إسقاط لخطاب الراهن عليها، بحثا عن جذوره في بداياتها الأولى
ثمة اشتغال دائم على التاريخ في روايات عيساوي. في رواية “سيّيرا دي مويرتي”، الصادرة منذ ثلاثة أعوام، يستحضر الكاتب الجزائري حياة معتقلي الحرب الإسبانية الأهلية (1936ـ 1939) بين القوميين والجمهوريين.
يقول “كتبت عن المعتقلين الإسبان وعن غيرهم، لأن المعتقل كان في المدينة التي أسكنها، هناك ذاكرة مشتركة بيني وبينهم، أن تصير قريتك جزءا مهما من التاريخ العالمي فهذا يجعلك تطرح الكثير من الأسئلة، الـمُعتقَل كان آخر بالنسبة إلي، والـمُعتقِل كان من جنسه، إذن كيف تكون وجهة نظر الأوروبي المهزوم تجاه ما يحدث في أفريقيا؟ هل ستكون نفسها النظرة الاستشراقية الاستعلائية أم أن هذه الهزيمة ستجعله ينظر إلى أفريقيا أو إلى الشرق بعيدا عما ألفه في الكلاسيكيات الأوروبية“.
يشير عيساوي إلى أن هناك العديد من الكتاب في الرواية التاريخية الذين تأثر بكتاباتهم، لعل أول رواية ألهمته هي رواية “جسر على نهر درينا” لإيفو أندريتش، ومن ثم كتابات نجيب محفوظ، عبدالرحمن منيف، جمال الغيطاني، والقائمة طويلة، لافتا إلى أن اختياره لعناوين أعماله الروائية يختلف من عمل إلى آخر؛ فكل رواية كان لعنوانها قصة، وهناك رواية قضى أشهرا ينتقل بين عناوين عديدة، حتى استقر ذهنه على عنوان اقترحه صديق. فليست هناك قاعدة للعنونة، قد تتجلى قبل كتابة الرواية، وقد تكتمل الرواية فيجد صعوبة في العثور على عنوان يفي المتن حقه.
ويُبين الكاتب الجزائري أن الكثير من المشاكل ترتبط بالكتابة التاريخية، وهي تتّسع إلى مستوى التنظير، هناك مناقشات مستمرة بين النقاد العرب حول تحديد مفهوم وحدود لهذا النوع من الكتابة، أهي تاريخية بحتة أم تاريخية متخيلة؟ وهذا ما يجعل التحديد صعبا، والاشتغال أصعب، إذ واجه في البداية مشكلة الكتابة عن الشخصيات التاريخية الحقيقية، وكيفية التعامل معها، وماهي الحدود الفاصلة بين ما هو تخييلي وما هو حقيقي؟ وكيف يمكن تحديد مساحة الحرية التي هي من حق الروائي، ولأنه يحرص على مساحة أوسع تجنب التعامل المباشر مع الشخصيات الحقيقية، اختار شخصيات متخيلة هي التي تقول ما تريد، وهي وحدها مسؤولة عن وجهة نظرها.
حصل الكاتب الجزائري على جوائز هامة، فقد حاز الجائزة الأولى في الرواية في مسابقة رئيس الجمهورية عام 2012 عن روايته “سينما جاكوب”، كما حصل على جائزة آسيا جبار للرواية “أعلى جائزة للرواية في الجزائر” عام 2015 عن رواية “سييّرا دي مويرتي” الصادرة عن دار الساقي 2015.
وفازت روايته “الدوائر والأبواب” بجائزة سعاد الصباح للرواية 2017. فضلا عن فوزه بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة عام 2017 عن عمله “سِفْر أعمال المنسيين”. هنا يلفت عيساوي إلى أن للجائزة دورا مهما في مسيرة الكاتب، تخلق له فضاء أوسع لانتشار رواياته، وتسويق اسمه، إضافة إلى التشجيع المادي الذي يحصل عليه، الذي قد يجعله يتفرغ للبحث والقراءة، وربما زيارة الأمكنة التي سيكتب عنها.
المكان بطل
للمكان حضور خاص في كتابات عيساوي وهنا يقول “بالمفهوم العام قد يكون المكان بطلا في نص روائي ما، إذا ما تعلقت مصائر جميع الشخصيات به، فللمكان سيرة أيضا مثل البشر، يحيا ويهرم ويموت، ولكن له ذاكرة أكثر اتساعا من ذاكرة البشر، لذا اشتغلت عليه في رواياتي الأولى، وحتى روايتي الأخيرة ‘الديوان الإسبرطي‘، جزء منها يعيد سيرة مدينة الجزائر “المحروسة” من خلال وجهات نظر مختلفة”.
يضيف عيساوي “لا يخلو روائي من هاجس يحرضه على الكتابة، مثلما لا يوجد كاتب يفتقد إلى مشروع، ولكن تختلف المشاريع في مدى نضجها، وراهنيتها. ما يجمع الكُتّاب هو الأسئلة الوجودية حول الحياة والأزمات الإنسانية، ويختلفون في طرائق مقاربتها، وأنا اخترت مثل كتاب آخرين، طريقة الكتابة التاريخية، من أجل قراءة راهن بلدي الذي لا أفهم في أحيان كثيرة ما يحدث به، وكيف يحدث هذا، وأسئلة كثيرة كلها حاولت أن أعيد صياغتها بأشكال متعددة لعلي أعيد تفكيكها”.
يرفض الكاتب الجزائري أن يكون للرواية دور إصلاحي في المجتمع. فالرواية برأيه تشتغل على الفردانية الإنسانية، تحاول إعادة بناء الإنسان أو على الأقل ترميمه، من منظور كونه فردا، وليست لها علاقة بالجماعات، أو كل ما هو شمولي.
وينوه الكاتب بأنه لا يمكن أن يفكر في قارئ محدد أثناء الكتابة، بل ينصب كل جهده على أن يكتب نصا تتعدد فيه مستويات القراءة، فهو يؤمن بأن الرواية الجيدة هي تلك التي تحتمل مستويات كثيرة للقراءة، يطالعها ذو الثقافة المتوسطة، فيستمتع بالحكاية فيها، وتطالعها النخبة فتجد فيها العمق الذي يولّد التأويل لديها. ربما هذا ما جعل دوستويفسكي وتولستوي وتوماس مان كتابا عالميين.