الكويت في صواب تجربة متعثرة

حتى لئن كانت الديمقراطية في الكويت أشبه بالقول “العين بصيرة، واليد قصيرة”، إلا أنها تعمل بما يكفي لكي يضع المرء يده على العقال والغترة لينحني.
شخصيات من قبيل جنان بوشهري ومرزوق الغانم ومهلهل المضف والكثيرين غيرهم، يؤدون أدوارهم النيابية أفضل بعشرات المرات من “أحزاب سياسية معارضة”. إنهم أفراد، مستقلون، يمثلون دوائرهم الانتخابية، ولكنهم يمثلون ضمائرهم، وقيم العدالة والمساواة، ويقتفون أثر القانون في مراقبة عمل الحكومة.
إنهم، بمعنى آخر، معارضون للخطأ وسوء التدبير. يسائلون الحكومة عن قراراتها، ويدققون في نتائج أعمالها، بمقدار معقول من المسؤولية. يحميهم القانون. ولكن يحميهم أكثر، أن هناك إطارا عاما يحترم الحدود.
يوجد بين النواب من يمكن للحكومة أن تشتريه. إلا أن هناك وسيلة وحيدة لشراء نواب مثل بوشهري والغانم والمضف هي أن تسلك الحكومة جادة الصواب.
◙ الناخبون أنفسهم ملّوا من كثرة الحاجة إلى العودة إلى صناديق الاقتراع، بمشاعر يغمرها الاعتقاد أن الأمر كله يبدو من دون طائل، لأنه سوف يكرر ما سبق من الاستجوابات، فالتعطيل، فالحل، فالعودة إلى الانتخابات
فقط عن طريق الصواب أمكن لنواب الضمير أن يشيدوا بإقرار الحكومة للمرسوم التنفيذي لقانون “تضارب المصالح”، الذي كان أول قانون تم تشريعه من جانب “مجلس الأمة” مطلع هذا العام. تأخرت حكومة أحمد نواف الأحمد طويلا، إلا أنها أقرّته في النهاية.
نجحت الحكومات المتعاقبة في تطوير وسائل فساد غير منظورة كثيرة. هناك طبقة “عليا” تتصرف بالمال العام وكأنه حق مكتسب أو موروث. وغالبا ما يتم دفن التحقيقات بشأن أعمال الفساد تلك. وهو ممّا يؤكد أن يد أعضاء مجلس الأمة قصيرة بالفعل. إلا أنهم يرون ما يجري، ويثيرون من حوله فيضا لا يتوقف من الانتقادات والمساءلات، ويبلغ الأمر أحيانا حد إسقاط الحكومة بإجبارها على الاستقالة.
وبطبيعة الحال، هناك حدود تتوقف عندها الديمقراطية عن العمل. يحل محلها نظام كتوم للنفوذ والسلطة وإملاء الأمر الواقع. إلا أن هذا وذاك، يقعان ضمن ممارسة أدوار، تتحاشى المصادمات، أو الكلام الخشن، أو الأوصاف المفرطة. لتجد أن هناك سقفا للغلو السياسي لا يتجاوزه أحد. لا من جهة الحكومة، ولا من جهة نواب “المعارضة”. بعبارة أخرى، هناك حد من القانون غير قابل للتجاوز.
الكويت بلد صغير من ناحية المساحة وعدد السكان. هذا يجعل البلد وكأنه بلد معارف وأقارب. وهناك قيم اجتماعية يحترمها الجميع في التعامل مع بعضهم البعض. وهذا مما يضع أعلى دوائر السلطة في مركز ذي حصانة. وهو ما يسمح لها في المقابل أن تخلع مقدارا كافيا من الحصانة على من يمارسون دورهم في البرلمان.
توازنات المسؤولية، تتحرك في إطار محكوم بمعايير مكتوبة وغير مكتوبة، تحولت إلى أعراف وتقاليد. مما يوفر إطارا عريضا لممارسة حريات عامة، تسمح بتوجيه النقد، وتجرؤ على مساءلة الوزراء، وتمتلك القدرة على التدقيق والتحقيق، مما يُلزم الطرف الآخر حدودَه، فلا يتعداها.
انعكس هذا الأمر على صحافة، هي من بين أفضل ما يمكن مطالعته في العالم العربي. اللعب يتم داخل حدود، إلا أن الأرض واسعة، مما يكفل للجميع أن يقول ويسأل ويحاسب.
تبدو هذه الديمقراطية بمثابة عبء سياسي. ولكنه عبء ليس زائدا عن الحاجة. ولا يمكن التخلص منه. لقد مضت البلاد في سياق أرادت من خلاله أن تتحول إلى كيان حديث، يتوافق مع معايير الحكم والإدارة لدى باقي الأمم المتحضرة. أرادت أن تقفز من فوق التقاليد التي تجعل من الاستقرار السياسي قريبا من الطبائع الاجتماعية.
◙ مشروع القانون سوف يسقط في نهاية المطاف، لأنه ينطلق من غايات مفلسة وغير شرعية، ولا تتوافق مع الدستور
تلك القفزة، كانت هي السبب الذي جعل من الديمقراطية في الكويت تتعثر مرة بعد مرة. وهو ما تجسد في حل البرلمان 16 مرة منذ تأسيسه في العام 1962. كما نشأت حكومات بلغ عددها 36 حكومة منذ الاستقلال في العام 1961، تناوب عليها 17 رئيسا للوزراء. حتى بدا وكأن السيل قد بلغ الزبى مع الحل الأخير لحكومة أحمد نواف الأحمد. وملّ الناخبون أنفسهم من كثرة الحاجة إلى العودة إلى صناديق الاقتراع، بمشاعر يغمرها الاعتقاد أن الأمر كله يبدو من دون طائل، لأنه سوف يكرر ما سبق من الاستجوابات، فالتعطيل، فالحل، فالعودة إلى الانتخابات.
ولكن لا بديل عن هذه الديمقراطية في الكويت، ولو كانت مضطربة. صارت أساسا من أسس العلاقة بين “طبقة السلطة” و”طبقة الأمة”. كما أصبحت جزءا من البناء المؤسسي للدولة. لا يوجد طريق للعودة إلى الخلف، حتى ولو بدا طريق المضي إلى الأمام مليئا بالحفر.
سوف يبدو الأمر وكأنه مفارقة، فسبب الحاجة إلى الديمقراطية في الكويت هو أن هناك أرستقراطية تريد أن تخالف القانون، وتعرف في الوقت نفسه أنها في حاجة إليه لتحكم!
السجال الدائر الآن حول مشروع قانون إعادة تنظيم الإعلام، يعكس شيئين متضاربين: “طبقة عليا” تريد المزيد من الحصانة، لكي تبعد عن نفسها المساءلات أو إثارة الشكوك، من دون أن تتخلى عن مسالكها غير المستقيمة أو امتيازاتها المبالغ فيها. و”طبقة أمة” تريد أن تتحصن وراء حقوقها الدستورية في مواجهة مسالك الخطأ وسوء التدبير. النواب هنا هم رأس الحربة.
مشروع هذا القانون سوف يسقط في نهاية المطاف، لأنه ينطلق من غايات مفلسة وغير شرعية، ولا تتوافق مع الدستور. ولكن سقوط المشروع يقدم برهانا على أن معترك الديمقراطية يحقق الغاية منه. إذ تستطيع “طبقة السلطة” أن تقترح مسالك، إلا أن “طبقة الأمة” ونوابها يجرؤون على الوقوف في وجهها، وردها إلى طريق الصواب.
◙ الحكومات المتعاقبة نجحت في تطوير وسائل فساد غير منظورة كثيرة. هناك طبقة "عليا" تتصرف بالمال العام وكأنه حق مكتسب أو موروث
فعلوا ذلك 36 مرة. فعلوه من أجل ترويض السلطة لكي تنتظم في الإطار الدستوري الذي اقترحته لنفسها.
لدى العديد من شعوب المنطقة العربية أكثر من دستة دساتير، ولو حرقتها، أو تركتها نهبا للتعديلات لتكون على مقاس حذاء الحاكم، فلن يشعر أحد بأن شيئا اختلف في حياته.
بينما في الكويت، يوجد من أمثال بوشهري والغانم والمضف الكثير، ممن يرفعون راية الدفاع عن المسالك الصائبة. يفعلون ذلك من دون تسويات، ولا مناورات، ولا تنازلات تفاوضية، لأنهم نواب ضمير.
لسان حالهم يقول “افعل الشيء الصحيح، واجعله خاضعا للمراقبة والمساءلة. ليس مطلوبا منك لتحكم، أكثر من ذلك”.
لو كانت توجد في الكويت أحزاب سياسية، لربما فسد النظام برمته، سلطةً ومعارضةً. ولكن كان يكفي أن تكون هناك حدود، وأدوار، ونظام قيم، ليجعل من أفراد مستقلين، أوزن من حزب، وأقوى من أيّ حكومة.
ضع يدك على العقال والغترة، وانحن لصواب هذه التجربة. نعم، متعثرة. ولكنها تعمل.