الكويت في المنعطف على بيئة الخصام

أعمال إعادة ترتيب الأثاث المنزلي في الكويت تمضي بأفضل مما يمكن لحكومة الشيخ أحمد النواف أن تأمل به.
المعارضون في البرلمان قرروا التعاطي مع الحكومة بمنطق التراضي والتسويات والإصغاء، ورئيس مجلس الأمة أحمد السعدون فاز بالتزكية، إذ لم ينافسه أحد، في إشارة إلى أن لا أحد يرغب حتى بخوض منافسات حول الرؤى المطلوبة للإصلاح. وبالنظر إلى أنه حليف لمؤسسة النظام، فقد جاءت تزكية السعدون لتقول إن “الجميع هنا حليف لمؤسسة النظام”، سوى أن على هذه المؤسسة أن تثبت، لنفسها على الأقل، أنها حليف لنفسها وللناس.
إعادة ترتيب الأثاث لجعله مريحا للحكومة يعني أنها يمكن أن تنجز أعمالها من دون ضغوط، أو تهديدات بالمحاسبة والمساءلات. ولكنها تعرف مسبقا، أنها مسؤولة عن أعمالها، وأنها لم تعد تملك رفاهية التسويف أو التغطية على أعمال الفساد. فحتى وإن توقف النواب عن ملاحقتها بالاستجوابات، على امتداد شهر العسل الذي يتمنى وليّ العهد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح أن يطول بين الحكومة والبرلمان، فإن ذلك لا يعفي الحكومة من حقيقة أنها مطالبة بأن تنجز ما تعد به، ولا تتذرع بأعذار في الفشل.
"الجميع هنا حليف لمؤسسة النظام". هذا مكسب إذا ضاع هذه المرة، فقد يضيع معه الكثير. إنه منعطف على بيئة الخصام. وحريٌّ بالعاقل أن يستثمره إلى أقصاه
صحيح أن نزاعات المصالح الداخلية بين أبناء “مؤسسة النظام” يمكن أن تعود لتطغى على الأجواء، ولكن هذه مسألة يتعين على “المؤسسة” أن تفصل فيها، بحيث لا يطغى تفاوت المصالح على الصالح العام. بمعنى آخر: فإن على رب الدار أن يضبط أهل الدار.
العمل الحكومي، إنما يعني برامجه، لا شيء على الهامش أو في الجوار. وهو عمل يتعين أن يؤدي إلى نتائج يستطيع المواطنون تلمّسها، ويشعرون أنها تصنع فارقا حقيقيا في حياتهم. ولا تستطيع الحكومة أن تلوم أحدا، إلا نفسها، إذا فشلت في ذلك، إذ أن هذا من أول المستحقات.
الكويتيون يعرفون أن بلادهم غنية. ولكن غناها ليس ظاهرا. هناك استثمارات خارجية ضخمة، تبلغ نحو 800 مليار دولار، إلا أن الاستثمارات الداخلية شحيحة، حتى لكأن البلاد نفسها لا توازي أهمية ما يمكن للثراء الخارجي أن يفعله. وهذا تصور غير صحيح، وخطير بالأحرى.
الثراء الحقيقي هو ما يتم بناؤه في الكويت نفسها. والاستثمارات تحمي نفسها أكثر عندما تتحول إلى عمل منتج في الداخل. تخيل أن تكون بلدا نفطيا ثم تستثمر في صناعات بتروكيمياوية في الخارج. سوف يظهر خلل المنطق ليبدو صارخا على الفور. ثم تخيل أن تكون بلدا صحراويا، تسطع فيه الشمس على مدار أيام السنة وتلهبه بدرجات حرارة تبلغ 50 درجة مئوية أحيانا، ثم لا يستثمرها في إنتاج طاقة شمسية، ما يزال من الممكن أن تغطي كل احتياجاته من الكهرباء. ثم تخيل أنك تعرف أن إنتاجك من النفط يتراجع، وأن حقولك سوف تنضب فيما يتراوح بين 25 و50 عاما، ثم لا تستثمر في بناء مفاعلات نووية كما تفعل الإمارات، وكما تسعى السعودية إلى فعله. على الأقل من أجل أن تكون تلك المفاعلات مصدرا لتحلية المياه، ودعك من إنتاج الهيدروجين.
والبلاد التي تغمرها الصحراء وتتحول إلى مصدر للغبار يعمي العيون، فإنها تعمي البصائر عندما لا تنهض مبادرات كبرى من أجل التشجير. وثمة العديد من التجارب الناجحة، في الإمارات خاصة، لزراعة أشجار قادرة على تحمل ظروف الطقس الحادة، بل إن بعضها يمكن أن يسقى من مياه البحر نفسها، لأنها تتحمل الملوحة. الكويت ليست ثرية بالفعل إذا لم تتحول إلى بستان أشجار وثمار.
هذا عمل لا يقصد خدمة البيئة وحدها، ولكنه يقصد أن تزهو البلاد بنفسها أيضا. إنه استثمار جليل في العلاقة بين الناس وأرضهم.
والبلاد التي تضيق بالعمالة الأجنبية، أو تهينها أو لا تحترم حقوقها، إنما تحرم نفسها من طاقة عمل رخيصة، يمكنها أن تنجز الكثير، وتتحمل ما لا يتحمله الكويتيون أنفسهم. رغم أن “عدم تحمل العمل الشاق” شيء غير صحيح أيضا.
تعال إلى بريطانيا، وستعرف القاعدة. فالشعب الذي لا يرفع قمامته بنفسه، سوف يأتيه يوم لا يرفعها له أحد، فيغرق بها.
البلاد التي تضيق بالعمالة الأجنبية، أو تهينها أو لا تحترم حقوقها، إنما تحرم نفسها من طاقة عمل رخيصة، يمكنها أن تنجز الكثير، وتتحمل ما لا يتحمله الكويتيون أنفسهم
هناك الكثير جدا مما يمكن عمله، ومما لا علاقة مباشرة له بـ”السياسة” والمناكفات والصراعات الداخلية والتنافس على الامتيازات. وفي الواقع، فإن المتنافسين والمتصارعين أنفسهم، بمن فيهم الذين وجدوا طريقا إلى الحكومة، جدير بهم أن يتنافسوا على الإنجاز، لكي يبرروا ما كانوا يتصارعون عليه.
لا شيء يبرر أن تكون النزاهة موضوعا للشكوك أو حتى للسجال. رئيس الحكومة يتعين أن يكون صارما مع وزرائه ومدرائه العامين في التصدي لكل مظهر من مظاهر الفساد. وإذا ما واجه أحد وزرائه استجوابا، فإنه هو من يتعين أن يقف إلى جانب الاستجواب، بل أن يبادر هو إليه، وإلا فلا معنى لاجتماعات الحكومة من الأساس.
ما ظل يحصل حتى الآن، هو أن وزيرا على رأسه ريشة من ريش الامتيازات، إذا سُئل عمّا يفعل، يلوذ بعدم الرد، فتلوذ الحكومة بمقاطعة البرلمان، فيجري حله، لتجري انتخابات جديدة.
هذه اللعبة طالت أكثر مما يجب. ووقفها بسيط: غاية الاستجواب هي النظر فيما إذا كانت هناك أخطاء أو تجاوزات. وجوابها أبسط: تقديم البرهان على الصواب، أو التعهد بفعله، بدلا من وضع الرأس في التراب.
حكومة تمتلك الفرصة لتنعم بالهدوء، ولديها رئيس برلمان متعاون، ومعارضون لا ينوون التسبب لها بالصداع، يتعين عليها أن تثبت أنها تستحق كل ذلك، وأنها قادرة على أن تتصرف بشفافية مطلقة في تنفيذ ما تعد بتنفيذه، وفي الاستجابة لمشاغل النواب وتساؤلاتهم.
وقد تختلف المطالب والرؤى بشأن قضايا الإصلاح. هذا أمر طبيعي للغاية. ويفترض ألا يكون سببا لاندلاع توترات.
سياسات المكاشفة والمصارحة وتقليب وجهات النظر، والتشاور من أجل تنفيذ الخيارات الأفضل، مسار يمكن الأخذ به. وهو لا يتطلب أكثر من التخلي عن مسالك التعالي أو الغطرسة، لأنها لا تنفع ولأنها كانت سببا أفقد الكويت الاستقرار، وجعلها تتراجع إلى الوراء، قياسا بجاراتها الخليجيات.
“الجميع هنا حليف لمؤسسة النظام”. هذا مكسب إذا ضاع هذه المرة، فقد يضيع معه الكثير. إنه منعطف على بيئة الخصام. وحريٌّ بالعاقل أن يستثمره إلى أقصاه.