الكلفة وقلة المحصول تضيّقان آفاق تجارة القهوة عالميا

أحدثت قلة محصول البن والتكاليف الباهظة ضجة في أوساط تجار القهوة وتخوّفا من تعرض القطاع لمحنة قد تعيق تعافيه مع اضطرار منتجين رئيسيين إلى تقليص الإنتاج، وهو ما يضع الأسواق أمام تحدي مواكبة الطلب المتنامي، في ظل زيادة الأسعار بشكل كبير.
لندن – تدفع زيادة كلفة المعيشة الكثير من مستهلكي القهوة في العديد من الأسواق العالمية إلى القبول بتناول الأنواع الرخيصة، إلا أن النقص الحالي في حبوب بن ربوستا يزيد من صعوبة العثور على فنجان مناسب للميزانية.
وفي حين أن الكثيرين يفضلون حبوب أرابيكا عالية الجودة التي تُباع في المقاهي، فإن بن ربوستا عادة ما يكون أقل كلفة لأن شجرته أكثر صلابة وتتطلب عناية أقل، مما يسهل إنتاجه بكميات كبيرة.
وغالبا ما يُستخدم بن ربوستا في القهوة سريعة التحضير والإسبريسو والخلطات المطحونة، التي تُباع في محلات السوبرماركت، وهو نوع شهد عودة الإقبال عليه مع بحث المستهلكين الذين يعانون من ضائقة مالية عن بدائل.
ويجد المزارعون الرئيسيون صعوبة في مواكبة الزيادة على الطلب نتيجة العوامل المناخية، وعقب أشهر من اضطراب هذه التجارة جراء الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي انعكس على أسعار الجملة التي وصلت مؤخرا إلى أعلى مستوى لها منذ نحو 12 عاما.
وزادت أسعار البن من نوع ربوستا بأكثر من 2.6 في المئة منذ بداية العام الجاري في ظل تزايد الطلب على هذا النوع، نتيجة إقبال شركات التحميص والمستهلكين على الأنواع الأرخص سعرا لمواجهة التضخم المرتفع.
وأظهرت منصة أنفيستنغ لتتبع البيانات والمؤشرات أن أسعار العقود الآجلة لبن ربوستا في تداولات بورصة لندن للقهوة بلغت الاثنين نحو 2455 دولارا للطن، بينما كان السعر في أواخر أبريل الماضي 2430 دولارا للطن.
وبلغ سعر العقود الآجلة للطن الواحد من بن أرابيكا المتداولة في بورصة نيويورك نحو 3612 دولارا، وهو منخفض قياسا بالأسعار المتداولة مع بداية هذا العام وسط المخاوف السائدة من أن يؤدي تباطؤ الاقتصاد العالمي إلى الإضرار بالطلب على القهوة.
وتسهم فيتنام، التي باتت أكبر منتج للقهوة، والبرازيل وكولومبيا وإندونيسيا وإثيوبيا من بين أكثر من سبعين بلدا منتجا رئيسيا، في إنتاج 75 في المئة من إجمالي البن في العالم سنويا، والذي يبلغ نحو عشرة ملايين طن.
وتراجعت صادرات بن ربوستا من فيتنام، أكبر منتج في العالم لهذا النوع، بنحو خمسة في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي. كما تزايدت المخاوف من تراجع الإنتاج في إندونيسيا بسبب الأحوال الجوية.
ويعاني صغار المزارعين في بعض أغنى مناطق إنتاج البن في العالم لإيجاد بدائل في مواجهة زيادة تكاليف الأسمدة، إلى درجة أنهم صاروا يفكرون في تدابير يائسة، قد تؤدي في النهاية إلى الحد من الانتعاش العالمي في الإمدادات التي تزداد الحاجة إليها.
ويدرس البعض استخدام النفايات العضوية بديلا رخيصا لأسمدة النيتروجين والفوسفور والبوتاس، رغم احتمال خفض تلك الخطوة للمحاصيل بشكل كبير.
ويؤكد مزارعون في مناطق إنتاج رئيسية في العالم مثل فيتنام، التي تقدمت على البرازيل خلال الأشهر الأخيرة من حيث الحصاد، وأوغندا أنهم تكبدوا خسائر فادحة في المحصول خلال الموسم الماضي.
وبغض النظر عن الاتجاهات التضخمية الجاثمة على الأسواق التجارية في كل دول العالم منذ أكثر من سنة، يعزوا الخبراء إخفاقات إنتاج المحاصيل إلى الظواهر المناخية القاسية، لكونها السبب الأساسي في زيادة أسعار البن.
وعلى سبيل المثال فإنه بالنسبة إلى المستهلكين في ألمانيا، أكبر سوق للقهوة في أوروبا، مع عدد سكان يبلغ 84.3 مليون نسمة، كان للنقص الحالي تأثير ملحوظ على أسعار البيع بالتجزئة.
أسعار تداول القهوة
- 2430 دولارا سعر طن العقود الآجلة لبُن ربوستا
- 3612 دولارا سعر طن العقود الآجلة لبُن أرابيكا
وزادت الأنواع سريعة التحضير بنحو 20 في المئة تقريبا عن العام الماضي، حتى مع فقدان التضخم في أسعار حبوب البن قوته الدافعة. كما تباطأ نمو أسعار القهوة الفورية في الولايات المتحدة بنسبة أقل من المحمصة في أبريل الماضي.
وتبدو احتمالات انحسار النقص في حبوب ربوستا عالميا في أي وقت قريب قاتمة، حيث من المحتمل أن تكون فيتنام قد جمعت أقل محصول لها منذ أربع سنوات.
ولاحظ خبراء تركيز المزارعين الفيتناميين على إنتاج محاصيل أكثر ربحية، مثل الأفوكادو والدوريان، لمواجهة زيادة تكاليف الأسمدة في أعقاب التأثيرات الكارثية التي خلفتها الحرب الروسية – الأوكرانية.
ولم تكن تلك المشكلة معزولة عن مناطق أخرى، فقد تضرر المحصول في البرازيل، ثاني أكبر منتج لبن ربوستا، من موجة الجفاف. وثمة مخاوف كذلك من أن إنتاج إندونيسيا قد يتراجع في أعقاب هطول أمطار غزيرة.
وفعليا لم تعد هذه التطورات ظاهرة جديدة. ويقول مارشيو فيريرا، رئيس رابطة مصدري البن في البرازيل، “بإمكاننا أن نحدد بعض الكوارث المناخية الكبرى، التي شهدناها خلال السنوات الأخيرة”.
ويوضح أن موجة شديدة من الجفاف في ولاية إسبيريتو سانتو، المنتج الرئيسي لبن ربوستا بالبلاد، تسببت في انخفاض حجم المحصول من 13 مليون كيس إلى 8.3 مليون كيس، وذلك خلال الفترة الممتدة من 2014 إلى 2016.
وهذه الأحداث من وجهة نظر علمية لا تثير الدهشة، فقد أشارت دراسة أجراها باحثون في جامعة زيوريخ للعلوم التطبيقية مؤخرا إلى أن محصول البن يعاني من التغير المناخي أكثر مما تعاني منه المحاصيل التصديرية الأخرى، مثل الأفوكادو والكاجو.
وتفضل نباتات البن المناخ الدافئ الرطب الشائع في المناطق الاستوائية، ولكنها أيضا لها متطلبات عالية للغاية في بيئتها الزراعية. وهي مثل الأعناب تنعكس التغيرات التي تحدث في أحوال التربة ودرجات الحرارة فورا على مذاقها وجودتها.
وينمو بنّ أرابيكا الذي يمثّل نحو 60 في المئة من الإنتاج العالمي على المرتفعات في إثيوبيا وجنوب السودان، ويناسبه متوسط حرارة سنوية يبلغ نحو 19 درجة مئوية. أما بن ربوستا فيتأثر كغيره بالاحترار المناخي، لكنّه يستطيع تحمل حرارة تصل إلى 23 درجة.
ولدى حبوب بن أرابيكا بشكل خاص حساسية شديدة تجاه درجات الحرارة المرتفعة، وهذه النوعية من حبوب البن أصلها أثيوبي ثم تمت زراعتها في اليمن.
ورغم هذه العقبات كانت الشحنات التي وجدت طريقها إلى التصدير من حبوب ربوستا على مستوى العالم، خلال الأشهر الستة الأولى من الموسم الحالي، أكثر مقارنة بالسنوات الثلاث الماضية، ولكن ليس بالسرعة الكافية لمواكبة الاحتياجات المتزايدة.
وذكرت منظمة القهوة العالمية أن الشحنات بين أكتوبر 2022 ومارس 2023 كانت أعلى بنحو أربعة في المئة من الفترة نفسها من موسم 2021 – 2022. وتعليقا على ما يحصل قالت جوديث غانز، التي تدير شركة استشارية في نيويورك تركز على سلع مثل القهوة، لوكالة بلومبرغ “لقد حدث تحول كبير في الطلب بعيداً عن القهوة ذات الأسعار الباهظة إلى درجة أن زيادة صادرات ربوستا لم تهدئ الأسواق”.
ولوحظ هذا التحول لأول مرة لدى المحامص التي زادت من كمية ربوستا المستخدمة في الخلطات التجارية لتعويض زيادة تكاليف حبوب أرابيكا وفواتير الطاقة. وبعد ذلك دفع التضخم المكون من رقمين في أجزاء كثيرة من العالم فواتير البقالة للارتفاع إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، ما أجبر بعض المستهلكين على اللجوء إلى الخيارات الأرخص.
ونتيجة لذلك تنمو القهوة سريعة التحضير والكثيفة ربوستا بشكل أسرع من قطاعات الصناعة الأخرى، وفقا لأغوينالدو ليما من رابطة صناعة القهوة البرازيلية الفورية، حيث يعد البلد أكبر منتج للبن القابل للذوبان في العالم.
وأفادت شركات رائدة في أماكن أخرى، مثل نستله وتاتا كوفي الهندية، في أحدث تقاريرها المالية بزيادة الطلب على القهوة الفورية. وفي حين أن حبوب ربوستا أكثر مرارة في طعمها من أرابيكا، فيما يرجع في جانب منه إلى ارتفاع مستويات الكافيين، فقد حسّنت كل من فيتنام وإندونيسيا جودة حبوبهما، ما يسهل على المحامص زيادة تنوع الخلطات دون التأثير بشكل كبير على المذاق.
وقال دانييل موناري، صانع القهوة الذي يدير أيضا مقهى رويالتي كواليتي بجنوب البرازيل، إن المستهلكين قد يكتشفون “نكهات مثيرة جدا للاهتمام” من خلال تناول ربوستا، حتى لو كان المذاق مختلفاً عن قهوة أرابيكا. وأضاف “هناك حلاوة وحموضة، وهما إضافتان رائعتان تمنحان المشروب توازنا”.