الكلام يعصف بالآلام
كنتُ أعرفُ من هو أولى بأن ينتشي، ذلك الذي كان شاعرا كبيرا مثلك محبا للحياة، أولى بأن ينتشي لأن شعراء من نسل فيرجيل ودانتي سيستقبلونك في العالم الآخر ليسهروا على توجيهك. برفقة صديقك محمود درويش، عزيزي أولاد أحمد، أنا متأكد أنهم سيسهرون على خدمتك ومرافقتك في رحلتك الأخيرة. ها قد ودّعتنا في اليوم التالي لعيد ميلادك وكنتَ قبل ذلك كتبت لنا من المستشفى العسكري لتخبرنا أن احتفالك بالعقد السادس والنيف من ميلادك على هذه الشاكلة تجربة جديدة بالنسبة إليك.
هي تجربة كتابة وهذا بديهيّ ففي نظرك كل أمر تجربة شعر ومن هذا المنطلق كُنتَ علما بين الشعراء التونسيين والعرب على حدّ السواء. فأنت نجحت في الشرب من كأس الحياة إلى الثمالة وأضفيْت الشعر على كلّ تفاصيل الحياة، فكلُّ شيء مِثلَ موضوع شعر في حياتك بدءا بطفليك ناظم وكلمات اللّذين سمّيتهما وفاء لروح الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت ووفاء إلى ذكرى الشاعر التونسي منور صمادح وكلماته المشهورة:
فتكلّم وتألّم ولتمت في الكلمات
وإذا ما عشت فيهم فلتكن الكلمات
شاهد أنت عليهم وعليك الكلمات
يهدر الشاعر في النّاس وتحيا الكلمات
ويموت بلا ذكرى وتبقى الكلمات
وإنّه لمن المشقّة أن أكتب عنك بعد رحيلك، ولكن لا مناص من الكتابة لأجل بكاء أحرّ. علّمتني “وأنت الشّاعر والأخ والرفيق والبكر” أنّ العبرات لا تكفي وعلى الكلام أن يُنصفها حتّى تَقْطُرَ عرقا بلّوريّا. ألم تكن أنتَ من اصطفاني عزيزي أولاد أحمد لأترجم لك بلسان رامبو هذه اللّغة الّتي تعز عليك أيّما عزّ؟ وإنّي مع كامل حبّي قد وافقت على الخوض في هذه المغامرة الجديدة علّ القصائد التي تؤلّف “مسودّة وطن” من المجلّد الذي صدر مع نهاية السّنة الخامسة عشرة والألفين تَهبُ تونس لا فقط “مسودّات وطن” بل وطنا له النّصيب الأوفر، لأننا نؤمن به. نعم، كما يؤمن أحباؤنا الذين رحلوا بدءا من عبدالعزيز الثعالبي إلى محمد البراهمي، مرورا بأبي القاسم الشابي والطاهر الحداد والحبيب بورقيبة وشكري بلعيد. كان كل شيء سياسيا عندك أيضا. فالشاعر عندك إنسان ملتزم أو لا يكون وإنسان متعلق بشؤون البلاد والشأن العام أو لا يكون ومرشد أو لا يكون.
من هذا الباب رافقتَ الثورة التونسية التي كنتَ شاعرها الذي لا غبار عليه. ومن هذا الباب أيضا التحقتَ بالهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
لقد عبّرتَ بصفتك شاعرا في البرامج التلفزيونية وفي الإذاعات بصوت عال وقوي أنّ تونس ليست بلدا ينتهي باللاحقة (آن) ولن تكون كذلك البتة، ذلك الذي تتمناه بعض العقول المتعصبة والرجعية، وهي العقول ذاتها التي هددتك بالموت وتضرعت للسماء أن لا تُشفى من مرضك.
لكنك لم تقف ذاهلا، لقد تعاملت مع الأمر جيدا وحملت المشعل جاعلا من الشعر بلسما خارقا قادرا على شفاء آلام تونس والعالم على حد السواء. إنّها، إن كان عليّ قول ذلك، الكلمات في مواجهة الآلام. ولقد ظللت مؤمنا بذلك إلى آخر رمق. وعلينا أن نضمّ الخطى إلى خطاك في طريق الشعر، هذه “الحياة الحقيقية”. قد نقول وداعا أولاد أحمد، لكنّك ككل شاعر استحق هذه التسمية ستبقى حيّا، أنت الذي علّمتنا أن نحب البلاد كما نحب الحياة. وها نحن نواصل معك في اليوم الأربعين لخروجك من العالم وسكناك في وجداننا العميق.
شاعر من تونس