الكرد في سجناء الجغرافيا

دون فهم الخصائص الجغرافية المختلفة لكوكب الأرض وتأثيراتها على المجتمعات البشرية لا يمكن فهم الشؤون والصراعات والتحالفات الإقليمية والدولية بدقة. ومُتَّخِذ القرارات السياسية إذا تجاهل تأثيرات العوامل والتضاريس الجغرافية الطبيعية على قراراته، لن تكون صائبة كثيرا. فهو مُحاط بجغرافية دولته ويتعامل مع فواعل آخرين، سواء كانوا حلفاء أم أعداء، هم محاطون بجغرافيات دولهم بدورهم.
ويعد تيم مارشال، الصحافي والكاتب البريطاني، صاحب كتاب (سجناء الجغرافيا) أحد أبرز الكتاب والمحللين السياسيين الذين كتبوا عن هذا الموضوع، أي الجغرافيا السياسية أو الجيوبوليتيك.
يقع كتاب (سجناء الجغرافيا: عشر خرائط تخبرك كل ما تحتاج إلى معرفته عن السياسة الدولية) في 440 صفحة، ونشره في عام 2015، أي بعد أزمة القرم عام 2014، وتنبأ فيه بالحرب الروسية – الأوكرانية التي وقعت في فبراير 2022، حيث كتب «الدول الموالية للغرب من أعضاء حلف وارسو سابقا، ثم نقلت عضويتها إلى الناتو و/أو الاتحاد الأوروبي…. عضوية أي منها للناتو قد تؤدي إلى اندلاع الحرب…. بالنسبة إلى نخبة السياسة الخارجية الروسية فإن عضوية الاتحاد الأوروبي هي مجرد حصان الرهان عليه يقود إلى عضوية الناتو، وبالنسبة إلى روسيا فإن عضوية أوكرانيا في الناتو خط أحمر لا يجب تجاوزه». أما الترجمة العربية للكتاب فقد صدرت في 2022 عن دار صفحة سبعة (7)، من قبل أنس مـحجوب ويونس مـحجوب.
يضم الكتاب بين دفتيه مقدمة وعشرة فصول، في كل فصل يتحدث عن خارطة جغرافية معينة، نقاط ضعفها ونقاط قوتها، وما تحتمه على الفاعل السياسي فعله، ومواقع هذه الخرائط من العالم، وكيفية التخطيط لمواجهتها.
وهذه الفصول بالتوالي هي: روسيا، الصين، الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، أفريقيا، الشرق الأوسط، الهند وباكستان، كوريا واليابان، أميركا الجنوبية، وأخيرا القطب الشمالي.
وأي خارطة من هذه الخرائط العالمية يمكن أن تقود العالم إلى نزاعات وحروب مدمرة إذا تم التعامل معها باستخفاف وسطحية، وبإمكانها أن تغير موازين القوى العالمية.
وما يهمنا هنا في هذه المراجعة للكتاب، هو الفصل السادس المتعلق بالشرق الأوسط، وبالذات الجزء المتعلق بالكرد في هذا الفصل.
فكيف يرى تيم مارشال الشرق الأوسط؟.
قبل التطرق إلى الحديث عن الكرد في الكتاب لابد من معرفة رأي الكاتب تيم مارشال عن الدول الشرق أوسطية وكيفية تأسيسها، باعتبار الكرد جزء أساس في هذه المنطقة، ويرى مارشال الشرق الأوسط كالتالي:
● الدول الأوروبية الغربية لأهدافها الاستعمارية بعد أن استعمرت أفريقيا وتفككت الدولة العثمانية، وضعت حدود الدول الشرق أوسطية الاصطناعية دون مبالاة بالأعراق والقوميات والجنسيات والمذاهب الدينية المختلفة التي تسكن هذه المنطقة، يقول مارشال «أوسط ماذا؟ وشرق أي اتجاه؟ إن اسم المنطقة يعتمد على النظرة الأوروبية للعالم، فوجهة النظر الأوروبية هي التي شكلتها فعلا. لقد استخدم الأوروبيون الحبر لرسم خطوط جديدة على الخرائط، وهي خطوط لم تكن موجودة في الواقع، وخلقت بعضا من أكثر الحدود اصطناعا في العالم. الخطوط التي تجري الآن محاولة إعادة رسمها بالدم لا بالحبر».
● شعوب دول العالم العربي ومحيطه لم تتقيد عبر التاريخ بمفهوم الدولة القومية القطرية الضيقة ولم تفهمها، ولكن الاستعمار الأوروبي هو ما زرع فيه – العالم العربي – هذا الشكل من الدولة الحديثة، مما قيد الحرية التي كانت تعيشها شعوب هذه المنطقة على أساس ارتباطها بمفهوم الأمة الأكبر، يقول مارشال «معظم الناس – في الشرق الأوسط – لم يكونوا يفكرون على أساس وجود الدول القومية وحدودها الثابتة قانونيا. أن يتصور رجل من منطقة معينة عدم قدرته على السفر عبر منطقة أخرى لرؤية قريب له من القبيلة نفسها ما لم تكن لديه وثيقة منحها له رجل ثالث في بلد معين لا يعرفه، لم يكن أمرا منطقيا قط”.
● النظم السياسية الدكتاتورية التي تحكم دول الشرق الأوسط، تتبع الدول الغربية، ولا تتجاوز المفاهيم السياسية عن الدولة وأنماط الحكم والسياسة والدين والمذهب، التي حددت لها من قبل الغرب. يقول مارشال «استخدم هؤلاء الدكتاتوريون آلية الدولة لضمان حكمهم على المنطقة بأكملها ضمن الخطوط المصطنعة التي رسمها الأوروبيون، بغض النظر عما إذا كان ذلك مناسبا من الناحية التاريخية، ومنصفا بالنسبة إلى مختلف القبائل والأديان التي حشرت معا”.
الكتاب يضم بين دفتيه مقدمة وعشرة فصول، في كل فصل يتحدث عن خارطة جغرافية معينة، نقاط ضعفها ونقاط قوتها
الكرد في سجن تيم مارشال:
في سياق الحديث عن الدولة العثمانية وتفككها في الربع الأول من القرن العشرين، وظهور معاهدة سايكس بيكو 1916، واحتلال بريطانيا للعراق 1917، وظهور الأفكار القومية، يقر مارشال بأن الكرد حاولوا الرحيل عن الدولة العراقية وبالتالي فكروا في إنشاء دولة لهم. ولكن يبدو ظاهرا أن تيم مارشال يتجنب الحديث عن الكرد في تركيا وإيران وسوريا بشكل فاضح، ويركز على الحديث عن علاقة الكرد بالنظم السياسية الحاكمة في العراق/بغداد، ونشوء إقليم كردستان واستفتاء الاستقلال في 2017 ونتائجه السلبية – بحسب الكاتب – على إقليم كردستان، وبشكل مقتضب غير مفيد. وليس هناك أي ذكر في الكتاب عن أي خارطة لـ«كردستان الكبرى»، كأن الكرد قوميات وليسوا قوما واحدا، وبالتالي يتجنب الحديث عن تأثيرات القضية الكردية في الشرق الأوسط الكبير، رغم أن كتابه يتناول الخرائط التي تحرك السياسات الدولية، مما يعني هنا أنه يحجم من تأثيرات الكرد في الدول الرئيسة التي يتواجدون فيها، تركيا وإيران والعراق وسوريا.
معوقات أمام استقلال كوردستان الكبرى:
يرى الكاتب بأن إقامة كردستان مستقلة بالكامل عن العراق تعطي فرصا كبيرة لإقامة «كردستان الكبرى» ولكن السياسات التي تتبعها النظم الحاكمة في العراق وسوريا وتركيا وإيران تتفق على منع حدوث هذا الاستقلال، وثم استقلال الكرد في العراق بالكامل يؤدي – في نظر الكاتب – إلى إنهاء وجود الدولة العراقية. والمشكلات التي تواجه الكرد مثل التفرقة الداخلية في كردستان العراق، وسيطرة نظام بشار الأسد في سوريا على معظم سوريا بدعم من روسيا وإيران، والفشل في إقامة الكرد في روج آفا (غرب كردستان) دويلة خاصة، وتخلي القوى الغربية عنهم عندما تشتد أزماتهم، كل هذه تمثل معوقات أمام إقامة كوردستان الكبرى، حسب الكاتب.
وفي العموم، ومرة أخرى، كان ذكر الكرد في الكتاب في أقل من 4 صفحات (252-255) وتأثيرات قضيتهم في الشرق الأوسط وانعكاساتها على العالم سطحية جدا، لا تتناسب مع مكانتهم وموقعهم الجغرافي وأحلامهم وطموحاتهم. ويبدو أن تيم مارشال سجن الكرد في كتابه أكثر مما تسجنهم جغرافيتهم الطبيعية.