الكتابة مهنة المفلسين

الكتب غالية الثمن بما لا تتحمله الأوضاع المعيشية للمواطن العربي.
السبت 2022/03/12
القاهرة صارت تؤلف وتطبع وتقرأ

في الماضي كان يُقال “القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ”، موهبة تتوزع بين مدن عربية ثلاث، كانت هي الأساس في تكوين الثقافة العربية المعاصرة. لا يهم هنا مَن يُعلم أو يُثقف مَن.

كان هناك شعور مصري لم يخف تفوق العراقيين في القراءة واللبنانيين في الطباعة. فما لم تكن هناك بيروت لما كانت الكتب تُطبع. وما لم تكن هناك بغداد لما وزعت الكتب.

معادلة ظريفة وإن لم تكن واقعية تماما ولا تُعرف الأسباب التي تقف وراءها. يومها لم يكن هناك أحد ليرد عليها. لم تعترض مدينة عربية أخرى لتزج باسمها في تلك المعادلة. كان حريا بدمشق مثلا أن تقوم بذلك غير أنها لم تفعل.

دمشق وهبت الحداثة العربية وبالأخص في الشعر الكثير من روادها غير أنها لم تنظر بحسد إلى المكانة التي كانت القاهرة قد صنعتها لنفسها.

ستظل الأخت الكبرى في مكانها وإن خانها الزمن. فالمصريون وإن ظلوا مستمرين في التأليف غير أن مدينتهم لم تستمر في تصدير المعرفة.

لقد سُجنوا خلف قضبان محليتهم لأسباب سياسية، كما أن المزاج المصري تحول من القومية إلى القطرية.

وفي المقابل فقد شهدت المدن الأخرى بسبب انقلابات الحداثة تطورا نوعيا في الكتابة لم تستطع القاهرة تلمس الطريق إليه حتى بعد أن تحولت إلى مستوردة وصارت هي التي تقرأ ولم يعد أحد يهتم بالمعادلة التي تفصل بين مَن يؤلف ومَن يقرأ ناهيك عمَّن يطبع.

في ظل ذلك التحول نهضت مدن عربية أخرى صارت هي الأخرى تصدر المعرفة وتهتم بتثقيف الآخرين من غير أن تكون بالضرورة منتجة للثقافة. عوضت تلك المدن عجزا بدا واضحا على المدن التقليدية التي لم تتوقف عن إنتاج الثقافة غير أن الانهيار الاقتصادي الذي ضربها ضرب بعصفه الكتاب، فلم يعد مَن يؤلف يجد مَن يطبع وإن طبع فإنه لن يجد مَن يقرأ.

الكتب غالية الثمن بما لا تتحمله الأوضاع المعيشية للمواطن العربي. القاهرة وحدها ظلت تقدم كتبا بأسعار مقبولة لكن اقتصر توزيعها على مصر وحدها. صارت القاهرة تؤلف وتطبع وتقرأ.

وبسبب انهيار القدرة التداولية للكتاب اتجه الكثير من القراء إلى تداول الكتب التي يمكن قرصنتها من الإنترنت فازداد سوق الكتاب ضيقا. صار الكتاب الورقي لا يصل إلى القارئ إلا من خلال المعارض الدورية بشرط أن تكون هناك تخفيضات.

ولكن الوضع ضبابي، فلا أحد يقدم إحصاءات دقيقة بحجم المبيعات خشية أن يطالب المؤلفون بحقوقهم.

المؤلف الذي يسره أن يجد كتابه بين أيدي القراء بقي على هامش العملية الاقتصادية وعليه أن يبحث عن عمل آخر ليعيش. أما التأليف فهو مهنة المفلسين ازداد عدد القراء أو انخفض.

20