الكتابة الساخرة فن أدبي يتراجع في العالم العربي

يرى بعضهم أن الكتابة الكوميدية أقل شأنا من نظيرتها التراجيدية أو السياسية وحتى من الخيال العلمي وغيرها من الأنماط الأخرى، وهذا ما تفطن له الكثير من الكتّاب وخاصة الروائيين وكتاب القصة القصيرة الذين استغلوا قدرات الكوميديا الكبيرة ومساحات السخرية لتقديم نصوص مختلفة تجتذب القراء الباحثين عن المتعة وتمرر رسائلها الثقافية بذكاء. لكن هذا النمط من الكتابة ما فتئ يتراجع في الأدب العربي الراهن.
القاهرة – الكتابة الساخرة ممتدة في الماضي البعيد للأدب العربي الذي حفَل بمؤلَّفات تصطبغ بالنكهة الكوميدية، مثل كتاب “البخلاء” للجاحظ ونوادر جحا وأشعب ملك الطفيليين وغير ذلك.
ومؤخرا نجد من حين إلى آخر كتابا أدبيا جديدا من نمط الكتابة الساخرة أو الكوميدية، ولو بأساليب جديدة مبتكرة وأكثر مواءمة لروح العصر المتسارع.
السخرية فن
من الكتب الساخرة صدر مؤخرا عن دار زين للنشر والتوزيع بالقاهرة كتاب “خبير مكافحة الإزعاج” للكاتب المصري هاني بركات، وهو كتابه الأول الذي يشارك به في معرض القاهرة الدولي للكتاب الملتئم حاليا في مركز مصر للمعارض والمؤتمرات الدولية في التجمع الخامس بالقاهرة.
الكتاب عبارة عن مواقف حياتية وعملية مر بها بركات أثناء شغل مناصب عامة كثيرة رصد من خلالها إشكاليات مجتمعية عديدة يواجهها الكثير منا، سواء عن طريق التعامل مع الجهاز الإداري للدولة والمفارقات المضحكة المبكية التي يجتازها المواطنون أثناء التعامل معه أو من خلال الحياة الأسرية والوظيفية، وهو ما برع الكتاب في تقديمه.
يقول المؤلف عن كتابه الأول “لم أكن أفكر في تحويل تلك المواقف إلى كتاب، لكنني رأيت أن من الطريف والمهم نشرها لعل النشر يفيد في تغيير الواقع الجامد، والذي أصبح من الصعب تغييره عن طريق الصمت. السخرية كما يقول غوته هي ذرة الملح التي تجعل ما يواجهنا مستساغاً”.
ويضيف “استخدمت في هذا الكتاب طريقة هوراتيان، نسبةً إلى الروماني هوراس الذي كانت تتميز سخريته بالبراعة حيث كان ينتقد بشكل عام الطبيعة البشرية وحماقات الإنسان”.
ويشدد بركات على أن “الكتابة الساخرة ليست نوعا من الضحك أو الهزل بل هي محاولة ثورية نقدية لتغيير الواقع بطريقة فنية ناعمة وأتمنى أن أكون قد وفقت في ذلك”.
ويتوافق رأي بركات مع رأي الكاتب الجزائري الساخر عمار يزلي الذي يرى أن النظرة إلى فن الفكاهة تتفاوت من شخص إلى آخر؛ فهي كما يشير “موجودة عند الجميع بنسب متفاوتة. فالكل يضحك ويحب الضحك والمزاح والنكتة. لكن رواية النكتة قد تختلف من راو إلى آخر. فقد يروي لنا النكتة أحدهم فلا نضحك ويرويها آخر فنموت ضحكا. هذا يرجع إلى ملكة طريقة القص والرواية، وبالتالي فإن السخرية والكتابة الساخرة فن. والفن لا يُكتسب بقدر ما يصقل وينمو عبر استعداد فطري وموهبة”.
فالكتابات الساخرة تبدو كما يعتقد يزلي قليلة في المجال الأدبي والقصصي والروائي والإعلامي، فيما هي حاضرة بقوة في روايات أدباء أميركا اللاتينية مثل خورخي لويس بورخيس وكارولس فوينتس وغارسيا ماركيز وغيرهم. إنهم يوظفون السخرية لتذويب أعتى المواد الصلبة في المجتمع وهي المؤسسة العسكرية في النظام الدكتاتوري.
ويلفت الكاتب الجزائري إلى أن “السخرية عندهم مثل حامض الكلور؛ لينة مسالمة، غير مباشرة ولكنها فعالة، تقول شيئا وهي تريد أن تقول شيئا آخر. إنها تعتمد على اللمز والهمز والغمز والمعاني والرموز، وهذا ما يخيف المستبد، لأن الأديب الساخر يمرر شتيمة وسبا وقذفا بطريقة سلسة لا تبدو سوى أنها فكاهة”.
الكتابة الساخرة التي ازدهرت في الماضي وكان تلقيها واسعا من قبل القراء سرعان ما تراجعت في الأدب والصحافة
للسخرية حسب يزلي طرق وسبل عديدة؛ يقول “هي أشبه بالزئبق، لأنها تفلت من الرقابة إذا كانت دقيقة فنيا. لا يمكن للأديب والإعلامي الساخر الذكي المتمكن أن يكون محل متابعة مباشرة لأنه عادة ما يمرر خطابه النقدي دون أن يلقي الرقيب القبض على لفظ واحد يدين صاحبه. لأنه يحمّل اللفظة والعبارة أكثر من دلالة وقراءة”.
أما الناقد السوري مفيد نجم فيقر بأن خصوصية الكتابة الساخرة واشتراطاتها جعلتا عدد الكتّاب الذين يجيدون هذا النوع محدودا، نظرا إلى حاجتها لحس ساخر وأسلوب طريف ولغة موجزة وواضحة عند الكاتب، مشيرا إلى أنه في تراثنا القديم كما في أدبنا وصحافتنا الراهنة كان الكتّاب الذين يجيدون هذا الفن قلّة، وهذه القلّة هي من أعطت كتابها هذه الأهمية والقدرة على الانتشار والشهرة.
تراجع أدب مهم
يرى عمار يزلي أن سبب عدم انتشار الأسلوب الأدبي الساخر في العالم العربي خاصة هو الأنظمة الحاكمة التي تعتبر السخرية والنكتة والكاريكاتير تهديدا سياسيا للنظام؛ كون الكاتب يعري ويفضح بالسخرية وبالضحك، وبطريقة غير مباشرة، كل تلك الهالات التقديسية التي يضعها ويرسمها الدكتاتور والمستبد لنفسه ولرموزه ولنظامه.
أما مفيد نجم فيقول “الكتابة الساخرة التي ازدهرت في الماضي وكان تلقيها واسعا من قبل القراء سرعان ما بدأ حضورها يتراجع في
الأدب والصحافة لأسباب عديدة، كان أهمها تأميم الصحافة واشتداد الرقابة على النشر، وانتشار الكاريكاتير الذي كان يتقدم على حسابها أيضا. لم يكن تلقي هذه الكتابة مرتبطا بلغتها الساخرة وقدرتها على الإضحاك وحسب، بل ارتبط أيضا بنقدها الساخر ظواهر وقضايا اجتماعية وسياسية تتصل بحياة الناس بلغة مكثفة واستخدام ذكي لعنصر المفارقة، إضافة إلى الطرافة في العرض”.
ويتابع “الطرافة في لغة هذه الكتابة تختلف من كاتب إلى آخر. لكن الاختلاف الأهم عند كتابها يكمن في نوعية هذه اللغة وعلوّ نبرتها؛ ففي حين تتميز لغة بعض الكتّاب بالسخرية والدعابة فإن لغة كتّاب آخرين تتميز بالحدة والسخط في سخريتها من الظواهر والقضايا التي تتناولها، ويمكن ملاحظة هذا الفارق بوضوح بين لغة القاص حسيب كيالي ولغة القاص زكريا تامر”.
ويلفت نجم إلى أن هذه الكتابة تكاد تختفي بعد أن رحل أغلب رموزها من الكتّاب المعروفين، في حين لم يحاول الكتّاب الجدد ملء هذا الفراغ، ومن حاول منهم أن يقتفي أثر الراحلين لم يكن أصيلا لأنه لم يستطع أن يضيف إلى الرصيد الإبداعي للمنجز السابق شيئا مهما، إن لم يكن يصرف من رصيدهم، ولذلك كان طبيعيا أن يتراجع حضور هذه الكتابة، حتى كاد يغيب عن المشهد الأدبي.
ولا يتوقف تراجع هذا النمط من الكتابة على الأدب بل طال الصحافة أيضا، حيث يذكر الكاتب المصري مصطفى عبيد أن الصحافة العربية المعاصرة شهدت تغيرات عديدة من بينها تراجع الكتابة الساخرة بعد أن كانت جزءا من وجدان القارئ، وقد خصصت صحف كثيرة ملاحق وأبوابا وصفحات لجذبه إلى هذه الكتابة الخفيفة العميقة.
الكتابة الساخرة ليست نوعا من الضحك أو الهزل بل هي محاولة ثورية نقدية لتغيير الواقع بطريقة فنية ناعمة
وتوقفت إصدارات كانت أصلا ساخرة، دون أن تُنتج الصحافة الحديثة مبدعين في الكتابة الساخرة من عينة محمود السعدني وأحمد رجب ومصطفى حسين ومحمد الماغوط ومحسن الصفار ويوسف غيشان وداود الفرحان، وحتى من يجيدونها ولا يزالون على قيد الحياة تراجعوا عن الاهتمام بها.
ويعزو البعض هذا التراجع إلى الأزمات المتلاحقة التي تعيشها المنطقة العربية، والهموم اليومية التي لم تعد تحتمل هذه الكتابة، فضلا عن ضيق مساحة الحرية في العالم العربي والذي ساهم بقوة في هذا التراجع.
ويرجع الكاتب المصري الساخر هشام مبارك، في حديثه لـ”العرب”، تراجع هذا النوع من الكتابة إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي أفرغته من معناه؛ إذ “اتسع نطاق صفحات النكت والسخرية على موقع فيسبوك بصورة غير مسبوقة خلال السنوات العشر الأخيرة”.
ويرى أن الجمهور انصرف إلى متابعة الكتابة الساخرة على مواقع التواصل، لأنها أسرع وأيسر وأشمل، مشددا على أن هذه الكتابة بحاجة إلى متنفس كبير من الحرية، وهو ما نجح الإنترنت في توفيره على حساب الصحف التي تتعرض لضغوط حكومية.