الكاظمي يحذر من مسار انتقامي يستهدف مسؤولين في الحكومة السابقة

خرج رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي عن صمته حيال مذكرات التوقيف التي طالت عددا من مسؤولي حكومته في سياق ما يعرف بـ”سرقة القرن” والتي عدّها كيدية، وتستهدف التغطية على المتورطين الحقيقيين.
بغداد – حذر رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي من السياسة الانتقامية التي تنتهجها منظمة الحكم الحالية، في رده على اتهامات بالفساد تلاحق أربعة من كبار المسؤولين في الحكومة السابقة.
وأكد الكاظمي أن الاتهامات الموجهة للمسؤولين كيدية “تتخذها جهات تحقيقية مرتبطة بقوى وأحزاب وميول سياسية تفتقر إلى الحدود المقبولة من الاستقلالية”.
وصدرت مذكرات باعتقال وزير المالية السابق علي عبدالأمير علاوي، ومدير مكتب رئيس الوزراء السابق رائد جوحي، والسكرتير الخاص أحمد نجاتي، والمستشار الإعلامي مشرق عباس.
وصدرت هذه المذكرات عن رئاسة “محكمة استئناف بغداد الكرخ – محكمة تحقيق الكرخ الثانية” التي تتولى التحقيق في ما أصبحت تعرف بـ”سرقة القرن”.
نهج سياسي مكشوف في استهداف وتصفية كل من ارتبط بالعمل مع الحكومة السابقة، بصرف النظر عن طبيعة عمله
وهي سرقة نفذتها خمس شركات نجحت في الاستيلاء على ما يعادل 2.5 مليار دولار من صندوق أمانات هيئة الضرائب في المصرف المركزي العراقي، وتم الكشف عنها في أكتوبر الماضي، قبل وقت قصير من نهاية ولاية الكاظمي وتشكيل حكومة جديدة بقيادة محمد شياع السوداني.
وقال رئيس الوزراء السابق إن القضية “تؤشّر إلى نهج سياسي مكشوف في استهداف وتصفية كل من ارتبط بالعمل مع الحكومة السابقة، بصرف النظر عن طبيعة عمله. وقد كانت إجراءات العزل والإبعاد والتنكيل الإداري التي أقصت المئات من الموظفين في الدولة خلال أسابيع معدودة مثالاً لهذا الاستهداف”.
وتتخذ حكومة السوداني من محاربة الفساد أولوية مطلقة، لكن مراقبين حذروا مرارا من السياسة الانتقائية في مواجهة هذه الظاهرة التي تغلغلت بشكل خطير خلال العقدين الأخيرين، وهو ما جعل العراق يتصدر مدركات الفساد على الصعيد الدولي.
وقال الكاظمي إن حكومته طالبت منذ الأسابيع الأولى مختلف الجهات بالتدقيق في ملف الأمانات الضريبية بموجب مخاطبات رسمية (19 أغسطس 2020). وبعد إجراءات تحقيقية، كشفت الحكومة السابقة (26 سبتمبر 2022) ملابسات هذا الملف، وأحالت المتهمين بعد اعتقالهم إلى القضاء، ووضعت كل التفاصيل أمام الرأي العام بشجاعة وشفافية.
وتفيد هذه الإشارة بأن الثغرات التي أدت إلى “سرقة القرن” كانت مفتوحة ومعروفة من قبل تأليف حكومة الكاظمي.
وقال الكاظمي إن الشخصيات التي تعرضت للاتهامات إما أنها قامت بدورها القانوني بشكل كامل، أو لم تكن على علاقة بملف الضرائب من الأساس، ما يشكل دليلا على وجود دوافع سياسية وكيدية، و”يكشف عن محاولات التستر المستمرة على المجرمين الفعليين، وهروب إلى الأمام واستهداف لخصومٍ سياسيين”.
وتتوفر خيوط للجريمة تدل على ارتباط مسؤولين سياسيين ونواب مهدوا لها، وتعمدوا إلغاء رقابة وزارة المالية على بعض ملفات الأمانات الضريبية، ولكنهم ظلوا في منأى عن المساءلة.
الدوافع السياسية للاتهامات، صحت أم لم تصح، فإنها لا ترفع المسؤولية عن حكومة السوداني في توفير آليات رقابة صارمة على أوجه إنفاق المال العام
وتشير وقائع الفساد في العراق إلى أنه مرتبط بقوة بجماعات سياسية وميليشيات نجحت في سرقة ما لا يقل عن مئة مليار دولار، فضلا عما لا يقل عن 400 مليار دولار أخرى “ضاعت” من السجلات الحكومية في عهد حكومة نوري المالكي بين عامي 2006 و2014، ولم تتم ملاحقة المتهمين الرئيسيين فيها، ولا وصلت التحقيقات بشأنها إلى المتورطين الحقيقيين. وهو ما يثبت أنه لم توجد آليات حقيقية لحماية المال العام. وهي آليات ما تزال غائبة حتى الآن.
وغالبا ما اقتصرت الملاحقات الجنائية في العراق على موظفين صغار، ومرتكبي جرائم اختلاس محدودة، بينما بقي مرتكبو الجرائم الكبرى في مأمن منها.
ولم تتمكن حكومة الكاظمي نفسها من تجاوز الحدود الدنيا في أعمال الملاحقة، تحاشيا لانفجار الأوضاع الأمنية في البلاد. ذلك لأن أطراف الفساد الكبرى تمتلك ميليشيات مسلحة وتتغلغل في المراكز الأمنية بما يكفي لتحويل أي اتهامات ضدها إلى حرب مكشوفة ضد الحكومة. وكان الكاظمي تعرض لمحاولة اغتيال بطائرة مسيرة في نوفمبر 2021، في دلالة على أنه، برغم منصبه، لم يكن آمنا من الانتقام.
ويقول مراقبون إن الدوافع السياسية للاتهامات، صحت أم لم تصح، فإنها لا ترفع المسؤولية عن حكومة السوداني في توفير آليات رقابة صارمة على أوجه إنفاق المال العام، وعلى السحوبات المصرفية، وعلى التحويلات المالية إلى خارج العراق، وعلى المصارف التابعة للميليشيات. كما أنها لا تغني جهات التحقيق القضائية عن تقديم أدلة على الاتهامات، والكشف عن اللصوص الكبار الذين وقفوا، ليس وراء “سرقة القرن” وحدها، ولكن غيرها من السرقات التي لم تكن أقل منها على امتداد الأعوام العشرين الماضية.
وكان السوداني تعهد لدى توليه منصبه بمكافحة الفساد، وتشديد الرقابة على التحويلات المالية، إلا أن حكومته ظلت تواجه القيود من جانب الاحتياطي الفيدرالي، وسط مخاوف من أنها لم تفعل ما يكفي لوقف أعمال تهريب الأموال من العراق إلى إيران أو إلى جهات تابعة لها في المنطقة.
وعلى الرغم من الاهتمام العام بالقضية، ما تزال التحقيقات في “سرقة القرن” تجري ببطء، ولم تكشف عن الكثير من التفاصيل المتعلقة بها، والتي أصبحت في عهدة الجهات القضائية، أو صارت تملك أدلة على تورط بعض الشخصيات. لكنها لم تقدم للرأي العام ما يثبت أنها تجرؤ على الوصول بتحقيقاتها إلى قعر المسؤوليات، بما يشمل الشركات التي نفذت الجريمة، والأطراف التي ساعدتها، والجهات التي ذهبت إليها الأموال.