"الكازوز" اسم على مسمى

المشكلة الكبرى التي يعاني منها الأطفال اليوم تكمن في أن الأسر قد تخلت عن عادة شرب الماء، فبدل أن تضع الماء على الطاولة أصبحت تعوضه بالعصائر المحلاة والمشروبات الغازية.
الجمعة 2018/09/21
الإعراض عن شرب الماء والإقبال على المشروبات الغازية

يروي الكثير من العرب عطشهم بشرابهم المفضل “الكازوز” كما يسمى في اللهجة العامية التونسية، ويعني ذلك المشروبات الغازية وخاصة الـ“كوكا كولا”، التي تكاد لا تغيب عن المائدة، وتعيش انتعاشة مفرطة في فصل الصيف، حتى أنها باتت أشبه عندهم بنبيذ الغرب، تقدم بأكواب معادلة وصفيا وحسيا لكؤوس النبيذ.

لا ندري لماذا سمى التونسيون والمصريون المشروبات الغازية بـ”الكازوز” (أو “الكازوزة” إذا تعلق الأمر بقارورة “الكازوز”)؟ وما السند المعجمي أو اللغوي الذي اعتمدوا عليه في ذلك؟ ومن بين الاحتمالات أن تكون الكلمة مقتبسة من فعل كَزَّ، والكَزُّ هو الشيء الذي لا ينبسط، ووجه كزّ أي قبيح، ورجل كَزٌّ أي قليل المُؤاتاةِ والخَيْرِ، والكزّاز داء أو رعدة من شدة البرد.. على أية حال المعاني متعددة إلا أنها لا تكشف المصدر الحقيقي لهذه التسمية الغريبة لمشروب محبب لدى العرب.

لكن بغض النظر عن مصدر الاسم، فالمشروبات الغازية يُفترض أنها ابتُكِرَت في الغرب، وفي الولايات المتحدة الأميركية تحديدا، إلا أنها أصبحت المشروب القومي لمعظم الشعوب العربية، بل وجزءا لا يتجزأ من السمات المميزة لإكرام الضيف، ومكافأة الأطفال عند النجاح في الامتحانات.

لا نعرف ما سبب تبجيل العرب للمشروبات الغازية الأجنبية الصنع رغم علاقة الصراع الضمنية التي تربطهم بالغرب. لكن، مثل هذا الأمر ليس غريبا عن الأجيال الحالية، بعد أن تكيفت المشروبات الغازية مع الأذواق السائدة هناك، بل وأصبحت مشروبا تقليديا في حد ذاتها.

وكثيرا ما صورت الدراما العربية والمسرح المشروبات الغازية بشكل فيه الكثير من الإثارة والتعلق المبالغ فيهما، مثل الـ”كوكا كولا” التي طلبها سرحان عبدالبصير (عادل إمام) في مسرحية “شاهد ما شفش حاجة” والتي أسرت قلبه وقلب حارس المحكمة، وربما أسالت لعاب الكثير من المشاهدين.

وصل الحال ببعض العراقيين في زمن ظهور المشروب الإسباني الـ”ميرندا” إلى التغني به، بل وتفضيله على أمهاتهم بقولهم “بيع أمك واشرب ميرندا”، رغم أن الأم لا يمكن أن تماثل بأغلى مشروب في الدنيا، ولو كان ذلك من باب الدعابة والتندر، لأنها ستظل أغلى من كل شيء.

 لم تفقد المشروبات الغازية على مر السنين سمعتها، حتى بعد أن صدرت الكثير من الفتاوى التي تحرمها بدعوى أنها تحتوي على نسبة من المواد المسكرة أو المخدرة، وبالتوازي مع ذلك ظهرت عدة دراسات لفتت الانتباه إلى المشاكل الصحية الكثيرة التي يسببها السكر الموجود فيها، إلا أنها بقيت تسقي العرب وتتآلف مع حياتهم ومناسباتهم، إلى درجة أن الكثيرين قد تخلوا عن “عادة شرب الماء” مع الوجبات وعوضوها بالمشروبات الغازية.

وقد لامت إحدى قريباتي زوجها، مرجعة سبب إحجام ابنها عن شرب الماء إلى إقباله المفرط على المشروبات الغازية التي لا تكاد تغيب عن منزلها، لأنها تعد مشروب زوجها المفضل.رغم محاولات قريبتي إرغام ابنها على شرب الماء في مراحل عمره الأولى، إلا أنه أصبح لا يمتثل لأوامرها، ولم تعد تجد حلا وسطا للتعامل معه، خاصة بعد أن تجاوز الثانية عشرة من العمر، وحتى استعمالها الاستراتيجيات التخويفية مثل التحذير من مضار المشروبات الغازية لم يُجد معه نفعًا، وأكثر ما يثير استياءها الوعكات الصحية التي تعرض لها نتيجة عدم شربه كميات معقولةً من الماء.

لا يبدو أن قريبتي هي الوحيدة التي تعاني من هذا الأمر، بل المشكلة تكاد تكون شائعة في كل عائلة لديها أطفال صغار، فمؤخرا حدثتني إحدى زميلاتي عن تجربتها المماثلة.تكمن المشكلة الكبرى التي يعاني منها الأطفال اليوم في أن الأسر قد تخلت عن عادة شرب الماء، فبدل أن تضع الماء على الطاولة أصبحت تعوضه بالعصائر المحلاة والمشروبات الغازية.

هناك فرضية علمية شائعة تقول إن الأطفال يتعلمون اختيار ما يأكلون أو يشربون في بداية أعمارهم، وتتكون لديهم عادات وارتباطات مع نوعيات معينة من الأطعمة، وهذا يعني أنهم يتأثرون ببيئتهم الأسرية ومحيطهم الاجتماعي. فنحن لا نحب شيئا معينا بالضرورة بسبب خصائصه الجوهرية فقط، على الرغم من أن المرء يمكنه أن يستسيغ كل شيء تقريبًا وتدريجيا. لكن ربما تنبع الأهمية الحقيقية لأحد الأطعمة أو المشروبات في حياتنا من كل ما يحيط بهما من هالة، أو من العوامل الثقافية التي نشبّ عليها في الصغر داخل أسرنا.

وبما أن الأسرة تعد البيئة الأولى التي تستقبل الطفل، فهي بالتالي أقوى مؤثر في حياته، ولها دور كبير في بناء شخصيته وتكوين سلوكياته وعاداته الغذائية، لذلك فأفضل نصيحة يؤكد عليها الخبراء، هي تعويد الأطفال على شرب الماء بعد الفطام مباشرة، كما يجب أن يكون الماء متاحا على الطاولة أمام الأطفال على امتداد ساعات النهار، حتى يشربوا كلما شعروا بالعطش.

21