الكاتب والشاعر الفرنسي جيرار ماسي: ترجمة قصائدي إلى العربية تكاد تكون مستحيلة

كاتب يحفظ نصوصه عن ظهر قلب ويؤمن بأسبقية الشعر في ما يكتب.
الأحد 2024/03/10
آمل أن تكون كتابتي شعريّة دائما

رغم رهانات التجنيس الصارمة التي تطبع تجارب العديد من الأدباء، والتقسيمات الحادة التي تفصل عوالم الشعر عن السرد والنثر وغيرهما، فإن العديد من التجارب تثبت إمكانية التقاطع والتوازي في لعبة مرحة وواعية تدمج أجناس الأدب دون أن يكون لها هاجس التهجين، بل هاجسها الكتابة والفكرة والإحساس مجسدا خاصة في الإيقاع. والكاتب والشاعر والمترجم الفرنسي جيرار ماسي من هؤلاء، وقد كان لـ«العرب» هذا الحوار معه.

ولد جيرار ماسي في باريس يوم 4 ديسمبر 1946، وهو مؤلّف بصيغة الجمع. مترجم ومصور فوتوغرافي، يمارس العديد من الأجناس الأدبيّة بين الشّعر والمقال الفكري والفلسفي، صدرت أغلبها في كتب ذات أحجام صغيرة لكنها متينة وعميقة، تكشف عن عمل متغيّر ومتجدّد من كتاب إلى آخر.

فاز ماسي بالعديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة روجيكايوا عن “طعم الإنسان”، والجائزة الكبرى للشّعر للأكاديميّة الفرنسيّة عن جميع أعماله الشعريّة (2008)، وقد فاز في ديسمبر 2020 بالجائزة الكبرى للنّقد الأدبي لعام 2020 من رابطة القلم وبراسري ليب عن كتابه الصّادر عند منشورات غاليمار تحت عنوان: “وسوف أهديكم العدم”.

اختيار الناشرين

ي

العرب: قُمْتَ بنشر “حديقة اللّغات” عام 1974، عندما كنت في الثّامنة والعشرين من عمرك، واستمريْتَ في النّشر منذ ذلك الحين، لا سيّما مع نفس الدّار، وكذلك مع آخرين أقلّ شهرة أو لنقل أكثر سريّة مثل منشورات فاتا مورغانا ولوتون كيلفي. في البداية، نودّ أن نسألك كيف تعمل وكيف تكتب بالتّحديد، ثم كيف تختار النّاشرين الّذين ترى معهم أعمالك المختلفة النّور؟

جيرار ماسي: أكتب فكريّا. أربطُ بين جمع النّصوص والتّفكير فيها، ثمّ أقومُ بالتّعديلات، وأحفظ نصوصي عن ظهر قلب. في الماضي، عندما كانت ذاكرتي أفضل، كان بإمكاني الاحتفاظ بفقرة أو فقرتين في رأسي، وكنت أعيش معها لعدّة أيام أو أكثر. وكان الحفظ أيضًا معيارًا: فهو يُثْبِتُ توافق الصّوت والمعنى. هما معيار ومتعة.

أمّا بخصوص اختيار دور النّشر، تبقى بالنّسبة إليَّ دار غاليمار هي ناشري الرّئيسي والأقدم منذ نصف قرن تقريبًا. جاء الناشرون الآخرون في وقت لاحق، أولاً فاتا مورغانا، ثمّ لوتون كيلفي والآخرون. لقد كان النّاشرون هم الّذين يتّصلون بي. في الكثير من الأحيان، لطبعة أولى، ثم تتناولها غاليمار بشكل آخر عادة ما يكون نهائيّا.

 أنا من محبّي الكتب إلى حدّ ما، أحبّ التّصميم والطّباعة، لذلك قمتُ بنشر نصوص في طبعات محدودة، مع الرسّامين أو المصوّرين الفوتوغرافيّين، ولكن تتناول هذه النّصوص طبعة دارجة.

هكذا، كان لكتابي “روما” طبعة أولى، نصّا فقط، مع دار فاتا مورغانا، ثمّ طبعة مع صور فوتوغرافية لإيزابيل مونوز، عند منشورات مارفال، وأخرى فيلوتون كيلفي، قبل أن تكون في سلسلة الجيب عند دار أرليا.

 لقد حدث بالفعل أن قمتُ بتغيير العنوان، اعتمادًا على الطبعة، لكن هذا مثال محدود، فلم تشهد كل كتبي هذا النوع من الهجرة. يرجع اختيار النّاشرين أيضا إلى الصّداقات والانتماءات.

النثر وأرض الفراعنة

شاعر منفتح الفكر يرفض كل أنواع الانغلاق أو التكلّس ليبني شعريته أساسا على التجدّد والتّنوّع والاكتشاف

العرب: تمارسُ كتابة نثر شفّاف يختلف عن كتابات معاصريك. كيف يمكنك التّمييز بين النّثر الشّعري والنّثر السّردي والنّثر من نوع المقال الفكري أو الفلسفي؟

جيرار ماسي: هناك نثر ونثر، هذا صحيح. آمل أن تكون كتابتي شعريّة دائما، فهي تتقدّم بواسطة القياسات والارتدادات، في نوع من الذّوبان الّذي يُشْبِهُ تقنية التّلاشي المتقاطع المعتمدة في السّينما. يكمن الفرق بين الشّعر والمقال الفكري في التّكثيف مرّة بكثرة ومرّة لا، لكن الإيقاع متقارب جدّا. هناك فرق آخر يكمن في استخدام المعرفة. في الجنس الفكري، يتمّ احتسابه، ولكن من الأفضل أن يكون خفيفًا قدر الإمكان. المعلومات هي أيضًا سبب للحلم.

العرب: يبدو أنّ لديك شغفًا فريدًا بأرض الفراعنة الّتي خصّصت لها كتبا مثل “آخر المصريّين” و”حيوات ماضية”، متبوعًا بـ”الصّناديق الثّلاثة”. ما اّلذي يبرّر هذا الحبّ؟ وهل يقتصر الأمر على تاريخها القديم فقط؟ أليست مصر الحديثة، مع شخصيّات عظيمة مثل أمّ كلثوم وطه حسين ومحمد عبدالوهاب ونجيب محفوظ، عظيمة بنفس الدّرجة ولكن بطريقة مختلفة؟

جيرار ماسي: ربما كانّت مصر القديمة مفضلّة عندي لأنّني لم أدرس اللاّتينية ولا الإغريقيّة، لكن قبل كلّ شيء أعتقد أنّني استفدت من قصّتها من خلال كتابتها. لقد سحرني النّسيان والقيامة، والتقت السريّة وفكّ الشّفرات بأسباب الكتابة لديّ.

لم أُهْمِلْ مصر المعاصرة، فلقد زرتُ القاهرة عدّة مرّات، وتجوّلتُ في أنحاء المدينة لساعات متواصلة، مرّة بصحبة المرحوم عبدالوهاب المؤدّب، لأنّ الهندسة المعماريّة وطرق الحياة تثيرُ اهتمامي بقدر اهتمامي بالأدب. لكن صحيح أنّني لا أعرف سوى القليل عن أدب اليوم، وأنّني أقرأ القليل من الرّوايات.

الشعر هو الأهم

ي

العرب: مع بيير بيرغونيو، وبيير ميشون، وباسكال كينيار، أنت جزء من دائرة من الكتّاب الّذين يقرؤون، ويحظون بالاحترام، ويعتبرون من الكلاسيكيّين الأحياء. بأيّ عين ترى، بالتّحديد تقرأُ الأعمال المخصّصة لك؟ هل يلعب هذا دورا في كتابتك وتفكيرك؟

جيرار ماسي: كلاسيكي وعلى قيد الحياة، أليس هذا متناقضًا؟ الصّحيح هو التقارب الّذي أبرزته، بين مؤلّفين من نفس الجيل، وجميعهم في الواقع ورثة الأدب الكلاسيكي. ممّا يعني أنّنا لسنا حسّاسين جدّا للاختراع الشّكلي، وأنّنا مقاومون للطّليعة، ولكنّنا حريصون على خطّ طريق لنا. وأودّ أن أضيف أنّه بالنّسبة إليّ، ربّما للشعر أهمّية أكثر من الآخرين. ربّما لنثر الشّعراء انطلاقا من نثر نيرفال.

أما بالنسبة إلى التّعليقات (الأطروحات والمؤتمرات والكتب) الّتي تخصّ أعمالي، فلطالما بدت لي ذكيّة ودقيقة وصائبة. لذلك، أنا لا أشتكي منها، لكنّها لا تلعب أيّ دور في كتاباتي أو مشاريعي. إنّها عوالم متوازية.

العرب: لو كان عليك أن تبدأ من جديد، ما هي الاختيارات التي ستتّخذها؟ لو كان عليك أن تتجسّد من جديد في كلمة، في شجرة، في حيوان، أيّها ستكون في كلّ مرّة؟ أخيرًا، إذا كان عليك ترجمة نصّ واحد فقط إلى لغات أخرى، إلى العربيّة على سبيل المثال، أي لغة ستختار ولماذا؟

جيرار ماسي: كلمة؟ هذا مستحيل، لأنّ الجملة هي الّتي تهمّ، والإيقاع قبل كلّ شيء. شجرة؟ شجرة الكستناء، لأنّني قضّيت ساعات طويلة في الغابة حيث كان جدّي من جهة والدتي حطّابا وكان يعمل بشكل أساسيّ على شجرة الكستناء. أنا حقّا أحبّ طعم الكستناء. لكنّ الصّفصاف ليس سيّئًا أيضًا، ولا شجرة الكرز.

حيوان؟ لا ينبغي أن يكون من الثّديّات، حتّى أتمكّن من الولوج إلى عالم مختلف تمامًا، وأودّ أن يكون ذكيّا. ربّما الأخطبوط.

كتاب للتّرجمة؟ سأجيبُ بكلّ سرور: قصائدي، لكن هذا يكاد يكون مستحيلاً. بالعربيةّ، “آخر المصريّين”، ليعرف الموهيكيّون سماء أخرى، أو “حيوات ماضية”، بسبب طرفة بن العبد.

الشّاعر المنفتح

كتابات ماسي تتقدّم بواسطة القياسات والارتدادات في نوع من الذوبان يشبه تقنية التلاشي المتقاطع في السّينما

يحتلُّ جيرار ماسي موقعا خاصّا في تاريخ الأدب الفرنسي المعاصر، فهو كاتب يحظى باعتراف وباحترام كبيرين. يدلّ على ذلك صدور كتاب جديد يوم 19 يناير 2024 تحت عنوان “مكتبة دوّارة”، يتمثّل في 18 حوارا جمعها أستاذ الأدب المعاصر بجامعة غرونوبل الألب لوران دومانز (من مواليد 1976)، وقد نشرت هذه الحوارات بين سنتي 1987 و2022 في مجلاّت أدبيّة لها صيت واسع في فرنسا وأوروبا.

الممتع في هذا الكتاب، الّذي يحتوي على مجموعة من الصّور الفوتوغرافيّة بعدسة جيرار ماسي، أنّه يستمدّ قيمته من فكر الشّاعر المنفتح والّذي يرفض أن تكون مثل هذه العتبات النصّية عنوانا للانغلاق أو التكلّس أو التّفسير الذّاتي لشعريّة تنبني أساسا على التجدّد والتّنوّع والاكتشاف.

 وإن كان لكلّ حوار عنوان خاصّ به، مثل “تمشّي التعلّم الذّاتي” و”الشّعر الّذي سقط في النّثر” و”الكتابة ليست التّحرير” و”فكر في صور”، وصولا إلى “شكل من السّيرة الذّاتيّة متقطّعة وغير مكتملة” و”الخيال ليست حكرا على الرّوائيّين” أو النصّ الأخير “ذبذبة الصّوت وتقزّح المعنى”، فإنّ للكتاب ككلّ وحدة فنيّة وفكريّة وجماليّة تعكس عبقريّة الكتابة والخيال والفنّ عند جيرار ماسي الّذي سنحاول قريبا التّعريف به أكثر من خلال ترجمة أشعاره، وذلك عكس ما يظنّه هو ذاته.

10