الكاتب المحترف شخص منضبط له عين متشككة للغاية

نشرت مجلة الجديد حوارين هامين مع الكاتب البريطاني جايمس غراهام بالارد، نتعرف من خلالهما على رؤاه في عالم القصة وطريقة تشكيله لأدبه الذي صار مرجعا في أدب الخيال العلمي، إذ لا يقلد من سبقه ويثور بشكل تام على النمط التقليدي لكتابة القصة. وفي ما يلي حواران معه علاوة على رأي سابق كتبه حول نظرته إلى الكتابة.
فانورا بينيت وترافيس إلبورو
كتب جايمس غراهام بالارد عن تجربته موضحا أن القصص القصيرة هي بمثابة الفكّة في خزنة كنوز فنّ السرد، ولذا فإنّها تتعرّض للتجاهل مقارنة بالروايات المتوافرة بكثرة، والتي هي عملة مبالغ في تقديرها وغالباً ما يتبيّن أنها زائفة. ففي أفضل الأحوال، مثلما نجد عند بورخيس وراي برادبوري وإدغار ألن بو، تُسكّ القصة القصيرة من معدن ثمين، ويكون لها ما للذهب من لمعان يظلّ متوهّجاً في محفظة مخيّلتنا العميقة.
لطالما احتلّت القصص القصيرة مكانة مهمّة في تجربتي. فأنا أحبّ صفة الاختزال فيها، وقدرتها على تكثيف الاهتمام بموضوع بعينه. كما أنها طريقة مفيدة لتجريب الأفكار التي تتطوّر لاحقاً إلى روايات. فجميع رواياتي تقريباً وجدت بذورها الأولى في القصص القصيرة، وقرّاء “العالم الكريستالي” و”اصطدام” و”إمبراطورية الشمس” سيجدون بذورها الأولى في مكان ما بين القصص التي يجمعها هذا الكتاب بين دفّتيه.
حين بدأت في الكتابة، قبل خمسين عاماً، كانت القصص القصيرة تتمتّع بشعبيّة كاسحة، حتى إنّ بعض الصحف دأب على نشر قصة قصيرة جديدة كلّ يوم. لكنني أعتقد أن الناس في أيامنا هذه، فقدوا للأسف الحماسة لقراءة القصص القصيرة، وهذا ربما يكون من نتائج المسلسلات الفضفاضة والمطوّلة التي تعرضها شاشات التلفزيون. ولطالما اعتبر الكتاب الشباب، بمن فيهم أنا، أن رواياتهم الأولى هي نوع من اختبار الفحولة، إلا أنّ الكثير من الروايات الذي يُنشر هذه الأيّام، كان من الأفضل لو أعيدت كتابته كقصص قصيرة. فمن المثير للاهتمام، أن هناك الكثير من القصص التي تتمتّع بصفة الكمال، إلا أنه ليس من رواية تحوز هذه الصفة.
الواقع الذي نأخذه كأحد المسلمات، الحياة المريحة من يوم إلى آخر بكل تفاصيلها البسيطة هي في الحقيقة منصة مسرحية
ما زالت القصص القصيرة حيّة، لاسيما في ميدان الخيال العلميّ، الذي هو الأقرب إلى القصص الفولكلورية والأمثولات. والكثير من القصص في هذا الكتاب، نشر للمرّة الأولى في مجلات الخيال العلمي، وإن تذمّر القرّاء علانية في ذلك الحين، من أنها لا تمتّ بأيّ صلة لأدب الخيال العلمي.
لكنني كنت منشغلاً بالمستقبل الحقيقي الذي أراه يدنو، وأقلّ اهتماماً بالمستقبل المبتدَع الذي يؤثره أدب الخيال العلمي.
رغبة الاكتشاف
- تسأله فانورا بينيت: أكنت تعرف دوماً أنك ستصبح كاتباً؟
ج. ج. بالارد: أجل. في طفولتي كنت أكتب باستمرار. أعتقد أنه كان لديّ نوع من الميل الفطري إلى الكتابة بسبب ما حصل في مدرستي بشنغهاي: حين كنت في الثامنة أو التاسعة عوقبت بنسخ كتاب. كان الكتاب الذي عوقبت بنسخه بعنوان “وستووارد هو”، وبينما عكفت على نسخه، لاحظت أنه يتحدث عن الإمبراطورية الإسبانية والقراصنة وما شابه ذلك، وأنه سيكون من الأسهل بكثير بالنسبة إليّ أن أختلق الأحداث. وهو ما فعلته منذ ذلك الحين.
مرّة، حين سلّمت الصفحات المنسوخة، طلب مني المعلّم أن أقرأها ثم قال لي “بالارد، في المرة المقبلة التي تعاقب بالنسخ، لا تختر روايات رديئة. اختر إحدى الكلاسيكيات”، فأدركت أنه لديّ فطرة الكتابة، وواصلت كتابة القصص، ثم أخيراً الخيال العلمي في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وصرت كاتباً محترفاً.
- فانورا بينيت: بعد الحرب عدت إلى لندن وسعيت لحياة إنجليزية مختلفة تماماً، فدرست الطب في كامبريدج لعامين، ثم قمت بأعمال عدة مثل كتابة الإعلانات وحمالاً في سوق كوفنت غاردن للخضار. ما الذي أضافه نمط الحياة هذا إلى كتابتك؟
ج. ج. بالارد: على الأرجح أنّ تجاربي في الحرب زرعت فيّ الحاجة لكي أكتشف، إن استطعت، ما الخلل في العالم، لمَ البشر منشغلون إلى هذا الحدّ بقتل بعضهم البعض، لمَ هناك الكثير من القسوة؟ كنت مهتماً بالطب، وفكرت بأن أغدو طبيباً، فدرست الطب وبعد سنتين اكتفيت من ذلك. عرفت أنني يجب أن أكون كاتباً.

كتبت الخيال العلمي في البداية لأنني لم أرد كتابة رواية تنتمي إلى مدينة هامستيد، والأمر العظيم في الخيال العلمي أنه لا أحد فيه يعيش في هامستيد. كما أنّ الخيال العلمي يتعلّق بالتغيير، وكنت مهتماً بذلك لأن إنجلترا في الخمسينات كانت قد بدأت تتغير، أصبحت هناك سيارات ومحطات تلفزيون ورحلات طيران، أي أنّ المجتمع الاستهلاكي وصل، وكانت إنجلترا تتغيّر بصورة جذرية. أردت الكتابة عن التغيير.
- فانورا بينيت: من الكتاب والفنانون الذين أثّروا فيك أكثر من سواهم؟
ج. ج. بالارد: غراهام غرين كان له تأثير كبير عليّ، وكافكا والرسامون السرياليون، لأنهم كانوا يرسمون ما أسميه “الفضاء الداخلي”. كتابتي لم تكن تدور حول الفضاء الخارجي بل التغيير النفسي، الفضاء النفسي.
- فانورا بينيت: يركز سردك على ما سيحدث في مجتمع معين. ما نوع أحداث الحياة الحقيقية التي تلهمك في كتابة رواية؟
ج. ج. بالارد: أشعر في عظامي بأن أمراً غريباً يحدث، وأستكشفه من خلال كتابة رواية، من خلال محاولة العثور على المنطق اللاواعي الذي يجري تحت السطح والبحث عن الصلات الخفيّة. كأنّ هناك أضواء غريبة، وأنا أبحث عن الأسلاك وعن علبة المنصهرات.
- فانورا بينيت: خلال الأربعين عاماً ونيف التي عشتها في إنجلترا، تحول منزلك في شيبرتون من مثال ريفي إلى ضاحية لمطار لندن. ربما من غير المفاجئ أن كتابك مليء بالمناظر الطبيعية المستلهمة من شعور الاغتراب في الضواحي؟
ج. ج. بالارد: هذا صحيح. أنا مفتون بالطبيعة النفسية للمجتمعات المسوّرة، وبإنجلترا الواقعة على تخوم الطريق السريع أم 25. وليس إنجلترا الأصيلة أو لندن التراثية، بل مرائب الحافلات والسكن المشترك، وكاميرات المراقبة والمطارات، والكثير من السيناريوهات الكئيبة التي تخيلتها صارت واقعاً. حين ننظر إلى الثلاثين عاماً الماضية، فإنّ العنف عديم المعنى صار أمراً شديد الشيوع: الناس الذين يدخلون إلى سوبرماركت ويشرعون في إطلاق النار عشوائياً، أعمال العنف مثل قتل الصحافية جيل داندو، أو حتى التفجيرات الفظيعة الأخيرة في مدريد.
لسنا متأكّدين من أن أياً من الأشخاص الذين يرتكبون هذه الفظاعات لديهم أيّ مبرر، حتى في عقولهم هم. قد يكون العنف من أجل العنف. وهذا خطر لأنك لا تستطيع التنبؤ به. ربما الناس ضجرون للغاية والحياة المعاصرة فارغة تماماً فيشعرون بالحاجة إلى إلقاء قنبلة أو قتل شخص ما لكي يشعروا بأنهم على قيد الحياة.
كاتب منضبط

- فانورا بينيت: أنت معروف بأنك رجل عائلي. هل هناك كتّاب أو فنانون آخرون في عائلتك؟
ج. ج. بالارد: لدي ثلاثة أولاد وأربعة أحفاد أعتزّ بهم كلّ الاعتزاز. أراهم كثيراً وعائلتي لطالما كانت مهمة بالنسبة إليّ. توفيت زوجتي قبل زمن طويل، في 1964، فتولّيت تربية أولادي بنفسي.
- فانورا بينيت: كيف تنظم وقتك؟ هل تكتب وفقاً لجدول زمني؟
ج. ج. بالارد: أجل. ما لم تكن منضبطاً، فسينتهي بك الأمر مع العديد من زجاجات النبيذ الفارغة. طوال حياتي المهنية أكتب ألف كلمة في اليوم، حتى لو كنت أعاني من تأثيرات ما بعد الشراب. يجب أن تضبط نفسك إن كنت كاتباً محترفاً. ليس من طريقة أخرى.
- فانورا بينيت: في العام 2003 رفضت لقب “القائد”، لماذا؟
ج. ج. بالارد: (يضحك). لو كنت أستطيع تسمية نفسي القائد بالارد، لكنت قبلت. أعتقد أن هناك مبالغة في تقدير مثل هذه الأمور.
الروائي المعاصر
في الحوار الذي أجراه ترافيس إلبورو مع الكاتب بالارد يسأله: في العديد من رواياتك، ثمة مجتمع صغير، سواء أكان مجمّعاً سكنياً فاخراً أو مربّعاً من الأبراج السكنية، يؤدّي دور العالم المصغّر الذي تستكشف من خلاله هشاشة المجتمع المتحضّر. أتعتقد أن انشغالك بالتدهور الاجتماعي، أو حتى بتوقف عملية التطوّر، ينبع من تجاربك طفلاً في معسكر الاعتقال حين رأيت رأي العين بأيّ سهولة يمكن أن يخبو التألّق الحضاري؟
ج. ج. بالارد: هذا صحيح، أعتقد أن تلك التجربة كان لها تأثير كبير، فكلّ من اختبر الحرب يعرف أنها تطيح بجميع الأفكار التقليدية حول العناصر التي تشكّل الواقع اليومي. فبعد تجربة الحرب لا تعود إلى طبيعتك السابقة. يشبه الأمر النجاة من حادث تحطّم طائرة؛ العالم بالنسبة إليك يتغيّر دون رجعة. هكذا الحال حين يمضي فتى في بداية مراهقته قرابة ثلاث سنوات في معسكر اعتقال، وأن يبدي اهتماماً كبيراً بالبالغين من حوله، بمن فيهم والداه، ويراهم يجرّدون من كل السلطة التي تغلّف البالغين عادة خلال تعاملهم مع الأطفال، أن يراهم يجرّدون من كلّ أشكال الدفاع عن النفس، ويفقدون شجاعتهم، ويتعرّضون للإذلال والخوف – وكنا جميعاً نشعر أنّ الحرب ستستمر إلى الأبد والربّ وحده يعلم ماذا سيحدث في مراحلها الأخيرة – هذا كله كان تعليمياً للغاية. كان فريداً، ومنحني تبصّراً هائلاً حول ما يشكل السلوك البشري.
- ترافيس إلبورو: درست الطب وصرّحت مرة أنّ الروائي المعاصر يجب أن يكون أشبه بالعالم. هل ندمت يوماً على تخصّصك في الطب؟
ج. ج. بالارد: كنت مهتماً للغاية بالطب. تجربة التشريح طوال سنتين كانت بالغة الأهمية بالنسبة إليّ، لأسباب عديدة. أعتقد بالفعل أنّ على الروائيين أن يكونوا مثل العلماء الذين يشرّحون الجيف. وكنت أرغب في ممارسة الطب لكنّ الدافع للكتابة كان طاغياً. عرفت من أصدقاء لي كانوا يسبقونني بعام أو اثنين في دراسة الطب، أنك ما إن تعمل في مشفى لندني أو تصبح طبيباً ممارساً فإن ضغط العمل عظيم للغاية. ما كنت سأحظى بالوقت للكتابة، وحافز الكتابة كان هو الطاغي بكلّ بساطة.
- ترافيس إلبورو: أتعتقد أنّ هناك هدفاً أخلاقياً لما تكتبه؟
ج. ج. بالارد: لست واثقاً من ذلك. أرى نفسي أقرب إلى المحقّق الاستقصائي أو الكشافة الذي يُرسل ليتبيّن ما إذا كانت المياه قابلة للشرب أم لا.
- ترافيس إلبورو: ككشافة أو كمحقّق كنت نافذ البصيرة، فمعروف أنك تنبأتَ برئاسة ريغان في “معرض الفظاعات” وقد لاحظت أنّ أحد المعلٌّقين أشار إلى “العالم الغارق” بعد كارثة نيو أورلينز. هل قلقت يوماً من أنك قد تكون نافذ البصيرة أكثر مما ينبغي؟
ج. ج. بالارد: فلنضع الأمر كالتالي: محقّق ونظام إنذار مبكر. أفترض أنّ أحد الأمور التي تعلمتها من تجربتي خلال الحرب، هو أن الواقع منصة مسرحية. الواقع الذي تأخذه كأحد المسلمات، الحياة المريحة من يوم إلى آخر، المدرسة، المنزل حيث يعيش المرء، الشوارع المألوفة وكلّ هذه الأمور، الرحلات إلى أحواض السباحة والسينما، هذه جميعها تشكّل منصة مسرحية يمكن تفكيكها بين عشية وضحاها، وهو ما حدث حقاً عندما احتلت اليابان شنغهاي وقلبت حياتنا رأساً على عقب.
أعتقد أنّ تلك التجربة تركتني مع عين متشككة للغاية أنظر من خلالها حتى إلى أماكن مستقرة مثل الضواحي الإنجليزية حيث أعيش حالياً. لا شيء آمن مثلما نحب أن نعتقد. وليس بالضرورة أن نأخذ مثال إعصار كاترينا ونيو أورلينز، فهو ينطبق على كل شيء. جزء كبير من عملي السردي يحاول تحليل ما يجري من حولنا وإن كنا مختلفين عن الكائنات المتحضّرة التي نتخيل أننا ننتمي إليها. أعتقد أنّ هذا يصحّ على كل ما كتبت. فالروح الاستقصائية تشكّل حقاً جميع رواياتي.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية