الكاتب العراقي زيد الشهيد: مهمة الروائي ليست وصف الواقع إنما تغييره

الرواية العربية الحديثة لم تعد تبحث عن مصطفى سعيد.
الأحد 2023/03/05
المكان بطل السرد (لوحة للفنان محمود فهمي عبود)

من المهم الوعي بعملية الكتابة، قبلها وأثناءها وبعدها، إذ الكتابة في النهاية رسالة، وليست تهويما ذاتيا وحالات شخصية. من هنا ينطلق جل الكتّاب من بيئتهم المحلية ومن محيطهم الفعلي أو المتخيل لإنشاء أعمال تكون على علاقة بمحيطهم بالضرورة، لكي تحقق تلك الصدقيّة التي من خلالها ينجح النص في الوصول إلى قارئ في أي مكان بخصوصية وبصمة. وهذا ما يؤمن به ويطبقه الكاتب العراقي زيد الشهيد، الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار.

يجمع الكاتب العراقي زيد الشهيد بين مختلف الأجناس الكتابية، فهو روائي ويكتب القصة والشعر، ويمارس الترجمة والنقد الأدبي. أصدر 12 رواية و8 مجاميع قصصية. كما أصدر مجموعتين شعريتين، وكتابين في النقد الأدبي والمقالات الفكرية، وترجم أعمالا روائية ومسرحية وقصصا عالمية. وله كتاب في أدب الرحلات خص به ليبيا يوم كان يمارس التدريس في ثانوياتها في منطقة الجفرة بين عامي 1998 و2004.

 التقيته لنتحدث عن جنس الرواية تحديدا، على أمل مواصلة الحوار في الأجناس والأنواع الأدبية الأخرى، وأنا الذي التقيته من قبل واحتوى على ذلك اللقاء كتاب “من ذات المبدع إلى الذات المبدعة” الذي ألفه الدكتور علي متعب جاسم التدريسي في جامعة ديالى، كلية التربية الأساسية وصدرت طبعته الأولى عام 2016.

الروائي سيزيف

التابوهات تشكل عوائق كبيرة
التابوهات تشكل عوائق كبيرة

العرب: “مشكلة المشاكل أنْ تضطر للتعبير عن روح المشرق بأساليب التفكير المادي للغرب. وفي هذا الفراغ الذي يباعد ما بين طرفي المعادلة كان زيد الشهيد يحاول أن يوازن خطواته. وأعتقد أنه كان معنيا بمناقشة وتفسير الأصولية الشرقية بمنطق الحداثة. وفرض عليه ذلك أن يضع الشخصيات في طرف والأحداث في طرف”. هكذا قال الناقد صالح الرزوق. هل هي مشكلتك فعلا في الرواية؟

زيد الشهيد: مشكلتي تكمن في الثقافة التي هي مصطلح واسع المعنى وواسع الغرض. فالعالم أصبح ثقافة، والثقافة صارت تنتشر وتتسع في مداها. فبعد أن كان الإنسان يبحث عن الكتاب كي ينمي ثقافته ويوسع من مدى معرفته أصبحت الثقافة معرفة يسيرة الحصول بيد كل من يسعى لنيلها بعد أن مدت الشبكة العنكبوتية تأثيرها لتشمل العالم برمته.

من هنا كانت الرواية، التي هي غرفة من قصر الثقافة الإنسانية، نشاطا إنسانيا، أدبيا، تتم على ميدانه الفعاليات الإنسانية عبر مؤلف يكتب ورسالة يريد إيصالها إلى الجميع. هذا الجميع الذي صار يستقبل وبسرعة منقطعة النظير هذه الرسالة، فيقرأها ويطلع على فحواها ودلالاتها ومراميها.

ومن هنا، وشعورا مني، إن الرواية تمثل واحدة من الرسائل الإنسانية التي يكتبها المؤلف ليبثها. وإذا كان فعل الكتابة يمثل مشكلة في تعاملها، وأقصد الكتابة مع مجريات الأحداث العالمية المتهافتة، فإن المؤلف ينظر إلى هذه المشكلة على أنها مغامرة لا بد من حصولها، وواقع ماثل لا بد أن يعاش ويتعامل معه بفكر فاعل من أجل مواصلة الرحلة الإنسانية التي تسعى للوصول إلى مرافئ تقليل القلق الإنساني مما يحيطه من وجود لمّا يزل مبهما، وغير قابل للإدراك برمته.

العرب: لو اتفقنا على أن كل رواية هي مغامرة جديدة فما هو الدافع الذي يشجع على خوض مغامرة جديدة بعد الانتهاء من سابقتها؟

ي

زيد الشهيد: طبعا، والجميع يعرف أن عملا روائيا أو عملين أو ثلاثة وحتى عشرة لا يمكن أن توصل الروائي إلى الشعور باكتمال مشروعه الروائي في التعبير عن كل ما في الحياة من مسالك وطرق ومحطات.

إن الذات الإنسانية مهما عبرت ستشعر بعد حين أنها لم تف الغرض الذي داخلها ويتأجج مع تنامي الوعي لديها سواء بالقراءة أو بالاطلاع على ما يحيطها، وإن وصولها إلى محطة أو مجموعة محطات لن يكون نهاية الرحلة الكتابية.

الحياة لا تنتهي، والإنسان حكم عليه العيش في واقع لا يكتمل بمجرد تحقق بعض متطلبات حياته، فهو مثل سيزيف المحكوم عليه من قبل الآلهة بالجهد الكبير من أجل إيصال صخرة ضخمة يحملها على كاهله إلى قمة الجبل ويثبتها هناك. فيجهد في حملها بطاقة وحيوية، لكنه لم يصل إلى ما يحقق نجاحه، لأن قواه تخور. ويعود من جديد كي يحمل الصخرة ويواصل الصعود.

ومن هنا أرى أن الروائي ما إن ينتهي من عمل وينفض يديه من غبار الكلمات والحروف التي بقيت عالقة على رأس قلمه وعلى ورقة الكتابة حتى يروح يعد العدة من أجل عمل جديد آخر، لا بد أنه مركون في زاوية من زوايا ذهنه جعله مشروعا، مؤجلا، لزمن قادم.

العرب: إعادة صياغة حكاية من الواقع وتقديمها من جديد ألا تبدو مغامرة نتائجها أقرب إلى الخسارة؟

زيد الشهيد: كثيرة هي الأعمال الخالدة التي تتناول حكايات مستلة من الواقع. والواقع هو البستان المليء بالأثمار التي تغري الذائقة بالإقبال عليها بشهية، من أجل أن يكون عرض هذه الأثمار كفاكهة مشتهاة.

الكاتب لا يمكن أن يرسم عالما من فراغ، بل هو الفنان الحاذق الذي يأخذ موضوعه من الواقع فيروح بما امتلك من موهبة متوهجة ومتأججة، وبما لديه من ذائقة فاعلة تصنعها الرغبة المتنامية في أعماقه لتقديم حياة لا تساير الواقع الذي أخذت منه الحكاية، بل تصنع طبيعة ثانية تفتح أبوابها على سعتها كي يدخل إليها القارئ المتلهف للجديد والمتغير، ذلك أن مهمة الروائي ليست وصف الواقع إنما العمل على تغييره.

الارتباط بالمكان

ي

العرب: اختيار عتبة النص له هدف معين عندك أو يفرضه النص بشكل تلقائي؟

زيد الشهيد: لعلي أقر حقيقة أن عتبة النص كثيرا ما تأتي متأخرة لدى الكاتب. أي أن اختيار العتبة أو العنوان لمنجزه عادة ما يحصل بعد اكتماله أو على وشك الاكتمال. وقليل هم من يضعون العتبة أولا، ثم يشرعون في الكتابة.

وبخصوص سؤالك الذكي عن الهدف المعين أو التلقائية في انبثاق العنوان لا أخفيك أن الكاتب مؤكد، يضمر هدفا معينا، من اختياره للعتبة وجعل هذه العتبة شيفرة لقارئ يريده أن يسعى من خلال قراءة النص إلى اكتشافها والوصول إلى مدلولاتها.

لقد واجهت في رواية “اسم العربة” رغبة اختيار أحد العنوانين: “اسم العربة” و”الرجل الذي تحاور مع النار”، ووجدتني أختار العنوانين معا، ليكونا عتبة مشتركة للرواية. فبهما تعبر الرواية عن مضمونها عند دخول القارئ عليها.

العرب: الارتباط بالمكان عندك يبدو أساسا لا مناص منه في أعمالك. روحك متجذرة في المنبت العراقي بكل أعماقه؟

زيد الشهيد: نعم.. أشكر متابعتك لأعمالي وتوصلك إلى هذه الرؤية. المكان عندي أحد الأسس التي تبني الرواية وجودها عليه. إن المكان يشكل أبجدية لها أحرفها وكينونتها وبنيتها التي تصنع بيتا، من اللغة، و”البيت هو ركننا في العالم” يقول غاستون باشلار، وهو تأكيد، لا يقبل الشك، بحتمية أهمية المكان في حياتنا.

النص السردي سيسبح في هلام إن ارتأى كاتبه حذف المكان من عالمه الذي يبنيه. وإذا كان المكان دعامة من دعائم البناء النصي عند الكاتب، فإنني أعتمد في أعمالي السردية على ترسيخ أهمية المكان بأن أجعله بطلا، يسير بموازاة حركة البطل أو الأبطال، بل وفي الكثير من الأحيان أجعل المكان معبرا، عن الزمان الذي هو الآخر يشكل دعامة من دعامات العمل السردي.

الكاتب لا يمكنه تحقيق ذاته إلا من خلال هويته المحلية والوطنية، من دون ذلك سيبدو كل ما يكتبه هلاما

فهم الزمان كثيرا ما يتمثل عندي في إدراك المكان وفهمه ومعرفته. فدخول المتحف في إحدى رواياتي، مثلا، إنما يتجسد فعل الزمان وتصويره وتخيله من فعل توصيف المكان والحديث عنه.

العرب: هل من أمثلة روائية في العراق تحدثنا عنها؟ أو أمثلة عربية؟

زيد الشهيد: الساحة السردية العراقية والعربية تعج بأسماء روائيين أعلام وخطابات روائية متميزة، وإن هي لا تحبذ الاندفاع من أجل الظهور ونيل الجوائز عبر المسابقات المعلنة في الساحة الثقافية العراقية والعربية.

 ومن هنا يطيب لي ذكر البعض من هؤلاء وأعتذر ممن لا تسعفني الذاكرة بذكرهم. فعندنا في العراق روائيون أمثال أحمد الجنديل بروايته ” ثلاث وستون”، عبدالستار البيضاني بروايته “دفوف رابعة العدوية”، عبدالزهرة علي بروايته “مصل الجمال”، سلام إبراهيم بروايته “الأرسي”، شهيد في روايته “كش وطن”، حميد الحريزي في ثلاثية “ثلاث محطات”، نبيل جميل في روايته “رسائل رطبة” وكثيرون لا يسع اللقاء ذكرهم.

ي

العرب: إلى أي حد يمكنك أن تكون ملتزما بالتابوهات المجتمعية ولا تخرج عنها في كتاباتك؟

زيد الشهيد: لا أخفيك أن التابوهات تشكل عوائق كبيرة عالية وسميكة كأنها جدران السدود، لكن الروائي بحكمته وحنكته يتجاوزها، متبعا طرقا وأساليب تهرب من أعين الرقيب وضغائن المترصدين، فيروح يكتب ما بين السطور شيفرات يفكها القارئ الحاذق. بتلك الطريقة يتخلص السارد من جملة الفخاخ المنصوبة له.

الهوية والمشروع

العرب: أمام هذا الكم المتلاحق من الهزائم العربية هل يمكن أن تنتج الرواية بطلا يحمل انتصارا، قادما، أو يبشر على أقل تقدير بمستقبل أفضل؟

زيد الشهيد: لم تعد الرواية الحديثة تبحث عن بطل كمصطفى سعيد الذي أوجده الطيب صالح لينتقم به من عالم رأى نفسه متفوقا، على الآخرين، بل صارت الرواية سباقا مراثونيا من أجل جعل القارئ يطلع على تجارب الآخرين حتى وإن كانوا في أبعد نقطة من العالم.

الهزائم العربية الحالية لا بد لها من الانتهاء وتغيير الحال. الظلم لم ولن يدوم، والشعوب الحية سرعان ما تنهض من كبوتها وتنتفض على مذليها، ثم تحقق انتصارها. الانتصار حتمية ناجزة للأمم التي تناضل ولمشاعل النور الثقافية التي تكافح من أجل حرية الإنسان ورفع العسف والاضطهاد عنه. لقد رمي نابليون الثالث في مزبلة التاريخ وارتفع نجم فيكتور هوغو الذي نال الظلم والنفي بعيدا عن باريس في جزيرة نائية.

العرب: هل يشغلك سؤال الهوية العراقية في إنتاج رواياتك وعربيا، عند قرائك؟

ي

زيد الشهيد: لا يمكن للكاتب تحقيق ذاته إلا من خلال هويته المحلية والوطنية، فبغير ذلك سيبدو كل ما يكتبه هلاما أو ثرثرة لا يخرج منها المتلقي بمدلولات يثري معرفته بإرث الروائي وانشغالاته.

الهوية أحد نضالات الكاتب في مضمار الكتابة. ومن يقرأ ما كتبت من أعمال روائية سيجد كم هو الاهتمام الذي يشغلني من أجل رسم هويتي العراقية المحلية لدى المتلقي. ولقد مررت من الهوية المحلية العراقية إلى الهوية العربية. فكتبت رواية “اسم العربة.. أو الرجل الذي تحاور مع النار”، التي تناولت الثورة التونسية في العام 2011 بشخصها محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجا على الظلم والجور ومحاربة الشغيلة في رزقها اليومي.

ولا أقتصر في كتاباتي على المحلية فقط، إنما كثيرا ما أضمن رواياتي تجارب وأحداثا وشخصيات عالمية، من بلدان وأمم متنوعة من العالم. فأنا كاتب كوني، يهمني كل ما يجري في هذا العالم، فأروح أجعله مادة فاعلة في كتاباتي. ومن هنا أجد أن كتاباتي في المحلية تتداخل وتتفاعل مع العالمية، سعيا لجعل النص الذي أدونه قابلا للقراءة في أي مكان.

العرب: ما هو مشروعك الروائي الذي تحلم بتحقيقه؟

زيد الشهيد: كل رواية قبل البدء فيها والانتهاء منها تشكل حلما، تصير في البداية فكرة وموضوعا ثم تفاعلا ليكون مشروعا يحقق اكتماله، فيخلع الكاتب معطف التفاصيل التي كونت الرواية بشخوصها وأحداثها، بتشعباتها وانعطافاتها.

الرواية صارت سباقا مراثونيا لجعل القارئ يطلع على تجارب الآخرين حتى وإن كانوا في أبعد نقطة من العالم

أريد أن أكمل كتابة الجزء الثاني من رواية “السفر والأسفار” التي أعدها من الروايات التي جهدت كثيرا في كتابتها لما احتوته من معلومات معرفية وزعتها داخل النسيج الروائي، فتقنية الرواية الحديثة كما أرى، وما اتبعته سواء في كتابتي للقصة القصيرة أو القصيرة جدا أو الرواية، هي احتواؤها على معلومات سواء بصيغة معرفة تاريخية بالتواريخ والأسماء أو بالأحداث.

لقد وجدت هذا مدعاة لاهتمام من يكتب الرواية، إذ وبعد نزول رواياتي التي تناولت التاريخ في نسيجها تأثر كل من قرأها، فراح يكتب روايته على تقنيات ما قدمت، واجدا في أعمالي نماذج جديدة للكتابة، لاسيما وأنها تلقت ترحابا من النقاد والباحثين الأكاديميين.

10