الكاتب الذكي يعرفُ كيف يكون صيَّادًا ماهرًا

سامي معروف، شاعر ورسام وروائي لبناني، صدرت له أعمال روائية بارزة منها “الفن الأسود”، و”أغانيات”، و”رقصات التيه”. “جريمة حُبّ غامضة” هي الرواية الأخيرة لمعروف التي ينشرها رقميًا على حلقات في مدونته الشخصيّة ثم على السوشيال ميديا لرصد تفاعل وآراء القراء حولها.
الرحلة الروائية
يُبيّن معروف في حديثه مع “العرب” أسباب توجهه نحو النشر الرقمي بقوله “أنشأت مدونتي خصّيصًا لرواية ‘جَريمة حُبّ غامضة‘، كما أنني قررت أن أنشر رواية على صفحات السوشيال ميديا، ولكن ليس بالطريقة التي ينشر بها الآخرون. أنا فنّان بطبْعي وأعشق الشَّكل الجميل، وطريقة العرض الأنيقة تجذبُ القارئ. أنا أكتبُ الفصل الرّوائيّ على المُدوَّنة في صورة PDF أنيقةٍ مزركشَة، ثم أضعُ الرابط على صفحتي الفيسبوكيَّة معَ جُملتَين وصورةٍ معبِّرَة عن مضمون الفصل المَنشور. وهكذا يكون النَّشرُ على الصَّفحَة الصنّارة التي أصطادُ بها قرَّائي إلى المُدوَّنة”.
فيما تشهد الدول العربية اهتمامًا كبيرًا بفن الرواية عززته عوامل عدة من بينها الجوائز العربية الموجهة للكتابات السردية، يظل الحديث عن العناصر الأهم في الفن الروائي مثار اختلاف بين الروائيين العرب باختلاف توجهاتهم وكتاباتهم. “العرب” كان لها حوار مع الروائي اللبناني سامي معروف حول رؤيته لأهم العناصر الواجب توافرها في الرواية الناجحة خصوصًا مع انتهاجه آلية النشر الرقمي لعمله الروائي الأخير.
يتابع معروف “إقبالُ القرَّاء كانَ مُشجّعًا جدًّا، ومُحاولتي الأولى نجحت. ولكنّي لست مع إقحام القارئ في المسار الدرامي للرِّوايَة، فنصي محبوك ومترابط ومُهَندس ليُفضي إلى الذُّروَة/النَّتيجَة التي هي في الخاتمة. وفي النهاية يقبل القارئ رؤيتي أو يرفضها. فأنا أقدّم فلسَفة ووجهة نظر في ما أكتب. ولكنَّ تعليقات القرّاء وتجاوبَاتهم كانَت مُحفِّزًا وموافقًا على آرائي المَطروحَة”.
يعتمد معروف في روايته الأخيرة المنشورة رقميًا على التشويق والإثارة في كتابة صفحات الرواية المتتابعة، التي تبدأ بجريمة مرتكبوها ودوافعها غير معروفين، ويتضح بنيانها وتفاصيلها ضمن فصول الرواية المتتابعة. يعتقد الروائي اللبناني أنَّ مسألة التّشويق وجذب القارئ يشكلان مشكلة بنائيَّة في الرواية العربيَّة الحديثة. الرّواية اليَوم مجرَّد عرض أخبار وأحداث غير مُفضيَةٍ إلى هدف، ولذلك تتصفُ بالمَلل. وعزوف القارئ عن الرواية سببه أن المروي لا يشُده. والرواية ممتعة إذا كانت مشوِّقَة، ومفيدة إذا كانت تحمل غايةً وقضيَّةً إنسانيَّة وعمقًا ثقافيًّا. والحبكَة الدّراميَّة المُتدرِّجَة في النَّصّ يجب أن تتوفَّرَ رَقميًّا ووَرَقيًّا على حدّ السّواء، وإلاّ ستبقى المُسلسلاتُ التلفزيونيَّة ذات الحبكة المشَوّقة تُلهي وتُغني الأجيال عن الأدب الروائي.
يشدد معروف على ضرورة أن يكون الروائي حاملا لرسالة، أي لديه ما يقوله للناس؛ عنده رأي، فكر، فلسفة، طرح وقضية وحل. وإلا فهو كاتب هش. ثم يستطرد “للأسف معظم كتّاب الرواية اليوم لا يقرأون. الشخصية الأدبية غير متوفرة في كتاب الرواية الراهنة. والشخصية الأدبية تضيف برؤياها ورؤيتِها وتجربتِها الفريدة، وشكلها الكتابي الطّريف الخاصّ بها، ولغتها المتميِّزَة، والطريقة الجديدة في مقاربة المشاهد المتناثرة في الحياة اليومية، إلى الإرثِ الأدبيّ نقلةً جديدة نحو الارتقاء. والتجديد كفيل بأن يُحدثَ جاذبيَّةً وحداثة. وفي النهاية.. الكاتبُ الذكي يعرفُ كيف يكون مُشوِّقًا وصيَّادًا ماهرًا للقرَّاء”.
بدأ سامي معروف كرسام وشاعر ثم اتجه إلى الكتابة الروائية. يوضح “أنا بالفطرة ضعيف إزاء الجمال وحساس جدّا لكل جميلٍ ساحر. والجمالُ مصدره الله. وكلُّ جميل في هذه الدنيا يعكس جمال الخالق. أنا أعشق الألوان والخطوط والموسيقى والشّعر.. وبرأيي إن الشعر هو أرقى نوعٍ موسيقيٍّ وضعه البشَر”.
يتابع معروف “في مراهقتي كتبت الشعر متأثرًا بالكبار (محمود درويش وعبدالوهاب البياتي وأدونيس وخليل حاوي)، ثم جمعت قصائدي بعد ذلك في ديوان ‘قُبُور الشَّهوة‘، وهناك مجموعة جديدة أيضًا. وسرعان ما شُغِفت بالرواية، فرحت أقرأ روايات وقصص فيكتور هيغو وغوركي وتشيخوف وديكنز وهمنغواي وماركيز وآلكسندر دوما وإدغار آلان بو والطيِّب صالح ومحفوظ والمَنفلوطي وتوفيق الحَكيم وتوفيق عَوّاد والنُّعَيمِيّ وجُبران. كنتُ قارئًا نَهِمًا، فإذا عشقتُ كاتبًا أقرأُه دُفعةً واحدة. القراءة الكثيرة صنعت مني كاتبًا. ثم كتبت بعد ذلكَ القصص القصيرة حتى جمعتها في كتابي الأوّل ‘الأشياء التي تعملُ معًا‘، وهكذا بدأت الرحلة الروائية”.
أنواع الرواية
يرى معروف أن هناكَ أنواعًا ثلاثة من الرواية: رواية تنسخ الواقعَ كما هو، ورواية تطرح نتاجا معينا وتعالجه، وهناك النوع الثالث الذي يهدم الموجود ويبني آخر بديلاً. الرواية الجديدة في فرنسا، مثلاً كتابات كلود سيمون وآلان روب غرييه وميشيل بوتور وغيرهم، رواية سرياليَّة بامتياز، كما يقول ضيفنا، إنَّها رواية الخلق من العدم، ولا يستطيع أن يقرأها غير ذوي الاختصاص. إنها ليست رواية للمتعة والتثقيف، هي طرح فلسفيّ رؤيوي أكثر منها أدبا جماليّا.
ويلفت الكاتب إلى أن الرّواية الواقعيَّة عاشت وأثمرت ووصلت إلى القمَّة في القرن التّاسع عشَر. ثمَّ بدأت التّجارب الجديدة الغريبة التي أبعدت القارئ عن الرواية، لأنَّها روايات صعبة وذات مضامين مهمّشة للتَّجربة الإنسانيّة. لقد تأثّرت الرّواية باللاهوت والفلسفة وعلم النَّفس، خصوصًا رواية تيَّار الوعي القريبة من البرناسيَّة، فأقصت نفسها بنفسها عن الجمهور. ولكن مع بداية القرن الحادي والعشرين عادَت الرّوايَة والتحمت بالواقع لتعالج السّياسة والفقر والحب والإباحيّة والانهيار الاجتماعيّ والاقتصاد والتّكنولوجيا والمحطّات التاريخيَّة الهامّة والثّورات والهجرات والحُرُوب. وقد يكون هذا الزَّمَن هو مرحلة الواقعيَّة الجديدة. وربَّما الرُّجوعُ إلى السُّوق والجُمهور هو الذي أعادَ الرواية إلى واقعيَّتها.
يتابع معروف “كون الرّوايَة أصبحت واقعيَّة بالإجمال، والسّياسة جزءٌ جوهريّ من الواقع البشريّ، فهي في الرّواية نتاج حتميٌّ محسوم. والسّيَرُ الذاتيَّةُ للقادة والحُكّام شَكلٌ من أشكال الرِّوايَة، وهي مَقرُوءَة ومشوِّقَة جدًّا. الرِّوائيّون يعشقون الكتابة في السِّياسَة. في أوروبّا وأميركا لا يكتبُ الرّوائيّ في السّياسَة. فالرّوايَة السياسيّة في أميركا اللاَّتينيَّة وفي أفريقيا وفي الشّرق الأوسَط حيث لسان حال الشّارع المُجادلات العنيفة.. حاضرةٌ بقوَّة. الاضطرابات والحروب والثَّورات والانقلابات مادَّةٌ جيِّدَة ومُلهمَة للكتابة الرِّوائيَّة. أذكر مثلا رواية ‘1984‘ لجورج أورويل، و‘فهرنهايت 451‘ لرالي برادبري، و‘الجنرال في متاهة‘ لغابرييل غارسيا ماركيز، و‘ثلاثيَّة غرناطَة‘ لرَضوى عاشور، و‘عمارة يعقوبيان‘ لعلاء الأسواني، وغيرها. والرّوايَة السِيَاسيَّة تكادُ تنافسُ روايَة العشق والغرام جَماهيريَّة. ثم إن المَوضوع لا يؤثّر سلباً في جَماليَّة النَصّ، فالمُبدع ينتقي ويُلبس مضامينه وأفكاره الأثوابَ المُلوَّنَة المُزركشَة التي يراها مناسبة لها”.
ثمة رقباء يفرضون قواعدهم على الكُتّاب بوعي أو دون وعي، يشير معروف إلى أن ثمة رّقيبًا خارجيّا هو الأعراف والتّقاليد والقوانين والتابوهات. والكتابَة حقّقَت تقدُّمًا جيِّدًا في اختراقِ هذه الحواجز في بلدانٍ عربيَّةٍ شتّى، خصوصًا في الثّالوث الشَّهير: السِّياسة والدين والجنس. نحنُ هنا في لبنان بلدِ الحُرّيَّات أكثرُ تقدُّمًا من سوانا في التَّعبير عن التابوهات، ولكنَّ الخطوطَ الحُمر ما زالت قيدًا ومانعًا إبداعيًّا. وأنا عالجتُ الجِنسَ والسِّيَاسَة بجُرْأةٍ لافتة. أمّا الرَّقيبُ الدَاخليّ فهو قناعاتي وقيَمي ومبادئي وغاياتي وطروحاتي في ما أقدمه، منذ بدأتُ الكتابَة”.