الكاتب الأميركي ستيف سيلبرمان يفوز بجائزة صامويل جونسون

أشادت لجنة تحكيم جائزة صامويل جونسون بكتاب “قبائل عصابية: إرث التوحد ومستقبل التعددية العصابية” للأميركي ستيف سيلبرمان، الذي نال الجائزة أخيرا، لأنه يتسلح بمنظومة من المعتقدات التي يدافع عنها بقوة خلاقة، ولبثه “نبرة آملة في حوار لا يسوده في المعتاد إلا اليأس”.
لا ريب أن فوز الكتاب مستحق، إلا أن اللجنة اختلفت بشدة حول أهلية المرشحين. وقد اتخذ المحك الأخير صبغة المسؤولية الاجتماعية، معتمدا على تجاوز أنماط الأنواع النثرية أولا، وثانيا على تأثير أوسع سوف يخلفه الفائز على المجتمع والعالم.
ترأست اللجنة هذا العام المؤرخة الأميركية آن أبلباوم، الحائزة على جائزة بوليتسر، وإيما دنكان، رئيسة تحرير مجلة “إنتيليجانت لايف”، وسوميت بول-تشودري، رئيس تحرير مجلة “نيو ساينتست”، ورنا ميتر مديرة مركز الصين بجامعة أكسفورد وتيسا روس الرئيسة التنفيذية السابقة للمسرح الملكي القومي.
والجدير بالذكر أن قائمة الفائزين بالجائزة، منذ تأسيسها، تضم مجموعة من الكتاب المرموقين، من بينهم أنتوني بيفور عن كتاب “ستالينغراد”، وفيليب هو عن كتاب “لوياثان أو الحوت” وغيرهم.
لا للشيطنة
كان طبيب الأعصاب البريطاني أوليفر ساكس قد أشاد بكتاب سيلبرمان باعتباره “تاريخا شاملا وثاقبا للتوحد، مكتوبا بتعاطف وحساسية نادرين”. ويُعتَبر الكتاب دراسة رائدة مفعمة بالأمل، تناقش تحولات علمية واجتماعية طرأت على اضطرابات التوحد عند المتوحدين، وتدعونا إلى أن نتناول هذه الظاهرة “بذكاء الذين يفكرون بطريقة مختلفة”.
والكتاب الفائز ينتهج عددا من التقنيات النثرية، نابشا جذور القضية من زوايا عدة، ولا يخرج البحث في صورة كتاب علمي عن التوحد، بل هو بحث عن العقل البشري ونظرتنا إلى أقراننا المختلفين عنا مرضيا، واجتماعيا، وعرقيا، لينادي بنموذج حياتي يتقبل الآخر دون شيطنة أو أحكام أخلاقية.
|
تعرِّف الدراسات الجينية والعصبية التوحد بأنه “صعوبات مستمرة في الاستخدام الاجتماعي للتواصل اللفظي وغير اللفظي، في صورة أنماط مقيدة ومكررة من التصرفات والاهتمامات والأنشطة” و”رغبة وسواسية في الحفاظ على تماثل الأشياء”. كلمة Autism، أي التوحد، مشتقة من الكلمة اليونانية Autos، وتعني النفس، دلالة على وحدة المريض المفرطة وتقهقره إلى عالم باطني مجهول.
كان مرضى التوحد في مستهل القرن العشرين يودعون في مستشفيات المجانين، بينما قام النازيون في الثلاثينات والأربعينات بعمليات قتل منهجية لهم، أسموها “القتل الرحيم”. ولكن رياح التغيير هبت في تسعينات القرن الفائت.
وقبل عام 2000، لم يكن سيلبرمان يعرف عن المرض ما يزيد عمّا رآه في فيلم “رجل المطر”، بيد أنه أمسى عبر خمسة عشر عاما واحدا ممن حطموا المنظور المشِل للمرض، ولا سيما حين نشر تحقيقا في مجلة “وايرد” حول معدلات الإصابة بالتوحد في منطقة سيليكون فالي بكاليفورنيا.
التقى الكاتب بباحثين وأطباء وأسر المرضى لكي يهدي إلينا زادا من القصص والنوادر بطريقة أدبية وبلغة مميّزة. وإحدى غاياته محو فكرة بائدة شاعت في الخمسينات بأن أطفال التوحد هم نتيجة للتربية الباردة المجردة من العاطفة. كما انتقد سيلبرمان أيضا الأثر المرعب الذي أحدثه بحث أجراه الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد عام 1998، عندما ادّعى أن لقاحي الحصبة والنكاف قد يفضيان إلى التوحد.
سدد الكاتب كلمات قاسية لعبارة وينستون تشرشل، “لا ترسم الطبيعة خطا أبدا دون أن تلطخه”، مؤكدا أن الإعاقة هي في جوهرها حالة طبيعية، والمرضى ليسوا عالة أو “ملطخين”. ولم يتردد في فضح استغلال بعض الأطباء النفسيين وشركات الدواء للمرضى وأسرهم.
اللافت أن الكاتب اختار عدم عرض بحث بيولوجي محايد يتتبع تاريخ التوحد الحديث، وإنما أراد استقصاء أسباب وصمة لازمت المرض طويلا، مجتهدا في إزالتها، مستحضرا حالات كان فيها التوحد شكلا طبيعيا من أشكال الاختلاف المعرفي الملازم للعبقرية. ففي عام 1997، مثلا، اكتشف عالم النفس المعرفي سايمون بارون-كووين أن نسبة لا يستهان بها إحصائيا من آباء المتوحدين وأجدادهم مهندسون.
شوارع كارهة
لا يفوت سيلبرمان أن يتحرّى تغلغل الثقافة الشعبية التقليدية في نظرتنا إلى التوحد من خلال تفسير ظواهر اجتماعية بسيطة كلوحات الإعلانات الإلكترونية أو الإذاعية.
وكان أحد المصابين بالتوحد، يدعى جون إلدر روبينسون، قد صرح يوما في أحد المؤتمرات العلمية أن التوصيف التشخيصي غاية في الأهمية، فمن دونه “لن تبقى لنا إلا أوصاف نتلقاها من الشوارع الطافحة بالكراهية”.
لذلك نجد الكاتب يتأمل نقاط قوة المرضى دون تجاهل لنقاط ضعفهم الإنساني، محذرا إيانا من “مدّ خطوط حادة بين ما نفترض أنه طبيعي وغير طبيعي”. وفي هذا السياق يعزز منطق حركة “التعددية العصابية”، وهي فكرة قائلة بأن الإعاقات الإدراكية تعكس إرثا جينيا “طبيعيا”، يختلف، ليس إلا، عما هو شائع، “فلا يعني استعانة كمبيوتر شخصي بنظام غير الويندوز أنه معطل”. ولو افترضنا جدلا بأن التوحد، في صورة طفل انعزالي مرح، هو الشائع، ثم انطلقنا من منصة هذا العقل لنصف “الغير”، سوف نجد أن العقل البشري “العادي” سهل التشتت، مهووسا اجتماعيا، وتنقصه العناية بالتفاصيل.
يحثنا ستيف سيلبرمان على تقدير كل ما هو عقلي بشري منطو ومنكمش على ذاته، هذا العقلي الذي لا يمكن إنكار إسهاماته بدوره في عالمنا هذا، حيث باستطاعته أن يبذل المزيد في كل مرة، رغم ما نراه فيه من نقص لأنه غير عادي بالنسبة إلينا، ويحق هنا وصف رئيسة لجنة الجائزة آن أبلباوم للكتاب بأنه “إنجاز ألمعي في البحث الأرشيفي والصحافي والعلمي، في كل من مجال العلوم الطبيعية والشأن العام”.