الكاتبة العُمانية ثمنة الجندل: المحافظة على الموروث واجب وطني

مهمة الكاتب أن يقنع الأجيال المتصارعة بأنها متكاملة.
الثلاثاء 2022/05/17
الإرث الثقافي مهم في حياة الشعوب (لوحة للفنان أنور سونيا)

تعد الكاتبة والقاصة العُمانية ثمنة الجندل من الكاتبات اللواتي أوجدن مكانة خاصة لوقع المكان وجمالياته في مشروعهن الأدبي، فهي دائما ما تكون قريبة من البيئة الجغرافية المحيطة بها، وعمدت إلى استغلال مساحة بوح الكتابة لديها لتصل إلى ذات القارئ بأساليب أكثر وعيا وابتكارا في شأن التأليف السردي. وهو ما نتعرف عليه في هذا الحوار معها.

مسقط - نقف مع المجموعة القصصية الأولى للكاتبة ثمنة الجندل بعنوان “بحر الزين”، وما تشكله من تجربة مع الكتابة السردية ومساحة البوح، إذ تقول الكاتبة “قبل هذه التجربة كانت قصتي ثلاثية البناء ‘المشكلة - الاضطراب - الحل’ وأقرب إلى الحكاية، وأعترف بأنه كان ينقصها الكثير من أدوات وتقنية القصة القصيرة، وتطورت لاحقا حتى خرجت هذه المجموعة ‘بحر الزين’ التي شكلت جملة من القصص القصيرة الخيالية والواقعية أيضا، وتشكل نتيجة محتومة للحب والشغف في كتابة السرد لهذا الفن الأدبي والتمتع والتمعن في صياغته”.

اعتمدت مجموعة “بحر الزين” على أسلوب سردي لغوي سهل؛ يترجم أفعال الشخصيات وسلوكها إلى أحداث وأفعال متتابعة ومرتبة، ويوجد انسجاما واتساقا بين الجمل والتعابير الخاصة، والمعاني والكلمات الأنيقة، والأفكار والألفاظ الجاذبة التي تزخر بالوصف، ذلك العنصر الفني الذي يصور ويزين ويسهم في تماسك عناصر القصة القصيرة.

ومن خلال تكاتف أساليبها تعكس القصص صورا اجتماعية متعددة ومتنوعة وتتطرق إلى بعض العادات والتقاليد والأعراف التي شكلت أفعال ووجدان شخصيات القصة، كما أن المرأة حاضرة بقوة في هذه القصص، فهناك المرأة الحنونة المفعمة بالحب والعطاء لأسرتها، والزوجة المخلصة، والمرأة الغيورة، والمرأة الذكية، والمرأة الكادحة والعاملة.

كاتب بين الأجيال

ثمنة الجندل: على الكاتب أن يوفّق بين أصالة التراث وبريق التجديد

تتحدث الكاتبة الجندل، عن هاجس الكتابة وتوجهاتها فتقول “هاجسي الأساسي ليس له حدود، لكن أود أن أكون كاتبة لها أسلوبها الخاص، حيث شخصياتي المتنوعة، وجملي الشاعرية، يكون لها تأثير إيجابي على القارئ، بحيث أعرج بخياله إلى صور واقعية وخيالية تتشابه مع ما يمرّ به من أحداث وأشخاص في حياته الواقعية”.

وتضيف “عندما أمسك بالفكرة أحاول ألا أدعها تهرب مني، لأنها سريعة التلاشي والذوبان، أنصاع لها وستمطرها كلمات بقلمي على أوراقي، وسط طقوس كتابية خاصة، في أجواء معطرة باللبان الظفاري؛ لإنعاش الذاكرة، والاسترخاء، وطرد الهالة السلبية، والشعور بالراحة النفسية والمتعة للانطلاق في الكتابة والتعبير، أبدأ بالعصف الذهني لبناء الشّكل القصصيّ والتخطيط للكتابة باستخدام تقنية ومكوّنات الكتابة، بما فيها من أمكنة وأزمنة، وشخصيّات، وأحداث، وحوار وبناء لغويّ مناسب، يساعد في بناء فنيّ سرديّ لإخراج نص منسجم وعناصره متماسكة”.

وتتابع “كلما كان الكاتب متمكنا من أدوات السرد وتقنيات الكتابة، تمكن من صنع نص جمالي أدبي، الأمر الذي يفتح شهيته ليجرب ويختبر أشكالا وأجناسا أدبية أخرى. وما اكتسبته من مهارات وتقنية وأدوات القصة القصيرة في ورشة أساسيات كتابة القصة القصيرة ولمدة ستة مواسم متتالية، يؤهلني بأن أجرب الرواية مستقبلا، كثير من كتاب الرواية، كانت بداياتهم من تجاربهم وإبداعاتهم في كتابة القصة”.

وتذكر الكاتبة الجندل الأهمية في توثيق التراث وأدبياته في مفرداتنا الثقافية، وما إذا ثمة إشكالية تواجه الأجيال في ربط ماضيها بحاضرها ثقافيا فتشير إلى أن التراث هو مجمل الإبداعات الثقافية التقليدية والشعبية الأصيلة التي تركها الأجداد للأبناء، وهي مصدر فخر واعتزاز لهم، لأنها تبرز الهوية الوطنية والتاريخية التي يتميز بها شعب عن غيره.

وتتابع الكاتبة: “المحافظة على هذا الموروث وصيانته وتطويره واجب وطني، على كل من يستطيع ذلك؛ كي يبقى ذخرا للأجيال القادمة، وتوثيق التراث وصيانته ضرورة ملحة، فهو يواجه تحديات صعبة ومهدد بالتلاشي والاضمحلال؛ بفعل التّحوّلات الاجتماعيّة والثقافية والاقتصاديّة، ولا ننكر أنه قد تراجع تداوله بين الأفراد، بسبب هيمنة الوسائل التكنولوجية الحديثة، التي أخذت مكانة بعض المفردات الثقافية. كما أن عدد رواة المفردات الثقافية في تناقص مستمر بسبب الوفاة، أو لعطب في الذاكرة، علاوة على أن العولمة أصبحت تهدّد الهوية الوطنية والمفردات الثقافية، بالتنميط والإذابة، بحيث تفقدهم خصوصيتهم وتميزهم وتفردهم”.

العولمة تهدّد الهوية الوطنية والمفردات الثقافية، بالتنميط والإذابة، بحيث تفقدهما خصوصيتهما وتميزهما

وفي ذات الإطار تشير الجندل إلى أن صراع الأجيال أو اختلاف الرؤى واضطرابها، صراع قديم وموجود عبر الأزمنة، حيث يتهم الشبابُ الكبارَ بأنهم جامدون ومتشدّدون ومتأخّرون عن فهم العصر الحديث ومتطلباته ويصف الآباءُ الأبناءَ بالتمرّد على القِيَم، وعلى العادات والتقاليد، وبقلّة الخبرةِ، وبعدم احترام آراء وخبرة الكبار. ويعتقد الأبناء أن التراث الثقافي ضرب من الماضي، أو أنه في أبسط الأمور خرافات وخزعبلات ولا يجب التوقف عندها.

وتضيف أيضا على الكاتب أن يوفّق بين أصالة التراث وبريق التجديد، وأن يؤمن بأن الأمس غير اليوم، ومهمة الكاتب أن يقنع الجيلين بأنهما مكمّلان لبعض لاستمرار هوية المجتمع وتماسكه ووطنيته، وذلك بتطويع التراث بما يتناسب مع تطبيقه اليوم.

على الكاتب، في رأيها، أن تتضمن نصوصه الحذف والتطوير والتشويق والإثارة بما يتوافق مع تقدم وتطور وتغير المفاهيم على كل المستويات. فمن خلال سرده الأحداث التي وقعت حقيقة في الماضي، عليه أن يضيف لها شيئا من إبداعه وخياله؛ وبإمكانه استخدام الوصف للأماكن والشخصيات التي اندثرت أو هدّمت، فهو بذلك يُحييها في نفوس الجيل الجديد. فالكاتب يستطيع أن يستلهم الشخصيات المشهورة القديمة وتقديمها في قالب أو جنس ثقافي بطريقة علمية ومنهجية مشوقة. فهو يسافر بالقارئ إلى حقبات زمنية ولّت وفنِيت، لكنه يعيد لها الروح بربطها بالحاضر.

للكاتبة ثمنة الجندل، مجموعة قصصية بعنوان “حدائق السلطانة”، تتحدث فيها عن المختلف فيه، فتقول “حدائق السلطانة هي مجموعتي القصصيّة الثانية، وقد تكوّنت هذه المجموعة من إحدى وعشرين قصّة، جاءت متنوعة كأزهار وورود الحدائق، توزّعت بين النّصوص الطويلة والقصيرة، وبين قصص تستند على خلفية واقعية تأثرتُ بها وظلت تطاردني حتى وضعتها على الورق، وتخلصت من ثقلها، فهي قصص خياليّة للمُتعة والترفيه، بعضها بنهايات متوقعة حسب الأحداث، والبعض نهايتها غير متوقعة، أمنح القارئ فسحة ليكتشف الأحداث والشخصيات والمشاعر بنفسه، وتضمنت أيضا أربعة نصوص من الحكاية الشعبية الظفارية، التي تمتاز بسحرها وغرائيبتها”.

الحفاظ على الموروث

Thumbnail

للكاتبة ثمنة الجندل مشروع ثقافي نوعي أيضا بعنوان الحكايات الشعبية (الحزاية) والأمثال الشعبية في محافظة ظفار، تقول “الحكاية الشعبية، من أهم مفردات الثقافة غير المادية الشفهية المهمة، وتراث أصيل تفتخر وتعتز به الشعوب، حيث تعكس ثقافة وحضارة وهوية وعادات وتقاليد المجتمع، ابتدعها خيال وتجارب الأجداد للتعبير عن الحكمة والخبرات الإنسانية؛ لتحقيق أهداف تربوية تعليمية ونفسية واجتماعية عدّة. تُسرد ببناء قصصي محكم، زاخر بالعبر والقيم، في عالم سحري خيالي جاذب، ويكمن جمالها وعذوبتها في سردها باللغة المحلية، التي لها تأثير سحري على السامع، وألفاظ وكلمات ثرية في المعنى، ومتميزة بالدفء والصدق والخصوصية”.

وتضيف “الحفاظ على هذا الإرث العريق، ونشره بين الأجيال الحديثة واجب وطني، ومهمة إنسانية جليلة. أنا ترعرعتُ وسط هذه الأجواء، ومنذ طفولتي تبهرني اللهجة الظفارية، وأحب التحدث بألفاظها وتعابيرها القديمة، فقد هممت في عام 2018 بأن أكتب كتابا عن ‘الحزاية الظفارية‘، حاولت استرجاع ما سمعته من قصص من جدتي وأمي رحمهما الله تعالى، لم تسعفني ذاكرتي، لأنه منذ سيطرت علينا الأجهزة الإلكترونية والسينما والتلفزيون أهملنا هذا التراث الجميل، وهو بطبيعة الحال هشّ ووهن وقابل للانقراض والتلاشي والنسيان”.

"حدائق السلطانة" قصص خياليّة للمُتعة والترفيه، بعضها بنهايات متوقعة حسب الأحداث، والبعض نهايتها غير متوقعة تمنح القارئ فسحة ليكتشف الأحداث والشخصيات والمشاعر بنفسه

وفي هذا الجانب تقول “تواصلت مع الصديقات والقريبات اللواتي في مثل سني وأكبر قليلا وأصغر قليلا، إذا تذكرن شيئا من تلك الحزايات، فكانت الإجابة ‘لا والله نسينا‘. أدركت حينها، إذ لم نهتم بثقافتنا غير المادية؛ فيمكن حرمان أطفالنا من موروث ثقافي شفوي جميل وأصيل ومتفرد، وبعد جهد حصلت على حزاية خاصة بالمحافظة، ولقربها من المجتمع فقد لاقت الاستحسان، وبعدها حصلت على عدة حزايات واتخذت من شهر رمضان المبارك فرصة للاشتغال على جملة من الفيديوهات عبر منصات التواصل الاجتماعي. الأمر الذي شجعني بأن أقوم بذات الشيء مع الأمثال الشعبية، وأعكف حاليا على كتابة كتاب عن الحزاية الظفارية”.

وتشير الجندل إلى أن سلطنة عُمان تزخر بتراث ثقافي غير مادي عريق، يحوي العديد من المفردات الثقافية المتنوعة التي شكلت الذاكرة الشعبية والوطنية والإنسانية، وتعكس الشخصية والهوية الوطنية العُمانية المتميزة، وتمنح أفرادها الأمن والأمان والانتماء، لقد فطنت سلطنة عمان إلى أهمية التراث غير المادي منذ فجر النهضة في السبعينات وإلى وقتنا الحاضر، وتهتم الجهات المسؤولة بالتراث وتعتبره ركيزة أساسية للدولة العصرية.

وتعد السلطنة، كما تقول، من أوائل الدول التي صادقت على العديد من الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بالتراث الثقافي غير المادي. وأسفرت هذه الاتفاقيات عن إعلان اللجنة الحكومية الدولية للتراث الثقافي غير المادي التابعة لليونسكو إدراج عدد من الفنون والمفردات العمانية كتراث إنساني حي مثال: فن البرعة، وفن العازي، وفن التغرود، الخ.. إضافة إلى وجود مؤسسات ومراكز وجهود فردية وشخصية تعمل على الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي وتعريف الأجيال الحاضرة بتراث وماضي الأجداد المجيد، وبتاريخ وطنهم وحضارته، والإسهام في تعزيز حب الماضي في نفوس الأجيال الجديدة، والاعتزاز والافتخار بهويتهم المتفردة.

تقول الكاتبة “أنا شخصيا عضو في أحد البرامج الوطنية التي تعنى بالتراث الثقافي العُماني غير المادي، في تقديم مشروع بحثي عن الحكايات والقصص والأساطير المرتبطة بالأمكنة العُمانية في الذاكرة الشعبية في محافظة ظفار”.

قصص تعكس صورا اجتماعية تتطرق إلى بعض العادات والتقاليد والأعراف التي شكلت أفعال ووجدان شخصيات القصة

“أعرف ظفار” هو مشروع آخر لا يقل أهمية عن مشروعات الكاتبة السابقة في إطار التوثيق، تقول الكاتبة “هذا المشروع هو كتاب نوعي جاء بعنوان ‘أعرف ظفار من خلال 530 سؤالا وإجابة‘ هو مجهود شخصي بحت، ومحاولة متواضعة مني في تعريف الجيل الحالي بما تركه لهم الأجداد من تراث أصيل ومفردات ثقافية متميزة، تجعلهم يعتزون ويفتخرون بهذا الإرث الغالي الذي يبرز هويتهم وأصالتهم الوطنية”.

وتتابع “في هذا الكتاب سعيت إلى توثيق بعض الملامح الجغرافية، والتاريخية، والسياحية، والحضارية، والعادات والتقاليد، والصناعات الحرفية، والمطبخ الظفاري التقليدي، والألعاب الشعبية، والفنون الشعبية، والاحتفالات بالمناسبات الدينية والوطنية، والحكايات الشعبية، والأمثال الشعبية، والأفكار والمعتقدات التي كانت سائدة قديما، والكلمات والعبارات المحلية القديمة وغيرها”.

ويجمع الكتاب بين كتب المعلومات والثقافة العامة وبين الدليل السياحي، بحيث يتعرف السائح والمقيم على روعة المكان، وتراثه الأصيل، وعلى أصالة وجمال الإنسان العماني.

تضيف الجندل “يقدم الكتاب معلومات بطريقة ثقافية سريعة ومفيدة وشيقة، وبشرح موجز وبسيط، عن طريق سؤال وجواب، وهي طريقة بسيطة ومسلية يسهل على الجميع تناولها سواء كانوا مهتمين بالموروث الثقافي الشعبي أو طلابا، وهو مترجم باللغة الإنجليزية، ترجمه زوجي الراحل الدكتور إبراهيم براين فين. وما قدم في هذا الكتاب غيض من فيض، فمحافظة ظفار لا تكفيها مجلدات، ولديّ النية لكتابة الجزء الثاني من ‘أعرف ظفار من خلال 530 سؤالا وإجابة‘ وأتمنى أن أجد له الوقت والتمويل الكافيين”.

13