الكاتبة التونسية هاجر منصوري: الخلق والتبني ثنائية تتحكم في قانون الحضارات

التابوهات في المجتمعات العربية مصدرها الأول السياسة لا الدين.
الأحد 2022/11/13
المرأة التونسية حققت مكاسب هامة لكنها منقوصة

رغم ما حققته المرأة التونسية من تطور فكري وافتكاكها لمجموعة هامة من الحقوق ما ساهم في تطوير المجتمع نسبيا، فإن الواقع يبدو منقوصا إذ ما تزال المرأة التونسية تواجه على غرار نظيرتها العربية هيمنة السلطة الذكورية وقلة تمثيلها في مواقع القرار وفي المساواة الكلية مع الرجل، وهو ما تناضل لأجله العديد من التونسيات بالفكر والإبداع، ومن بين هؤلاء الباحثة والكاتبة التونسية هاجر منصوري التي كان لـ”العرب” معها هذا الحوار.

تختص الباحثة التونسية هاجر منصوري في الدراسات الحضارية التي تعنى بالشأن النسوي وقضايا النسوية الإسلامية في بعدها الفرقي والمذهبي وفي تقاطعها مع السياسي والثقافي والاقتصادي والإعلامي والأدبي والفني.

وكرست الباحثة جميع منشوراتها العلمية الواردة في مجلات علمية محكمة أو في كتب جماعية وطنية ودولية في هذا السياق البحثي. كما لها مشاركات عديدة في ندوات علمية وطنية ودولية واقعية وافتراضية، ومساهمات في الأنشطة التربوية والثقافية في الجمعيات والمنظمات التابعة للتربية والأسرة وفي المكتبات الجهوية والملتقيات الأدبية والوطنية.

وتحضر منصوري لقاءات وحوارات في مراكز بحثية وفي الإعلام التلفزي والإذاعي، للتعريف بالقضايا النسوية في المجتمعات الإسلامية، كما تكتب في ذلك مقالات رأي في صحف ومواقع إلكترونية ذات منحى ثقافي حقوقي وسياسي، وتدير أيضا صالون “حواء لأصوات كل النساء”، ومركز الدراسات النسوية.

وصدر للباحثة حديثا كتابان رواية “الحديث بتاء التأنيث”، و”نون النسوة في الخطابات الدينية حفريات ورهانات حضارية”، نتطرق إليهما علاوة على إثارة القضايا التي تهم اختصاص المنصوري في حوارنا معها.

العقلية التونسية

مصدر التابوهات كما تزعم منصوري هو سياسي ولكنه يتلون بما هو اجتماعي تارة وبما هو ديني تارة أخرى
مصدر التابوهات كما تزعم منصوري هو سياسي ولكنه يتلون بما هو اجتماعي تارة وبما هو ديني تارة أخرى

العرب: ماذا ينقص المرأة في تونس.. ماذا تريد؟

هاجر منصوري: لا أحد ينكر أن المرأة التونسية راهنا حققت مكاسب هامة في جميع المجالات الحياتية (اجتماعيا، ثقافيا، سياسيا، اقتصاديا…) مقارنة بغيرها من نساء العالم العربي، ويدركها في ذلك القاصي والداني بشكل موضوعي وقانوني. ولكن ما تزال تنقصها فرص تمكينها من جميع حقوقها في فضاء مواطني يقر بالمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، بعيدا عن مفهوم القوامة الذكورية.

 ولذلك نجد أن المرأة التونسية والحراك النسوي التونسي عموما يريد استكمال دورة هذا التمكين قانونيا وتشريعيا، وافتكاك الوصاية الرجولية في الشأن السياسي خاصة، لاسيما وأن الواقع يقر بحضور المرأة في جميع المجالات ويقصيها من جني ثمار المواقع القيادية والسيادية.

العرب: هل هناك اختلاف في العقلية التونسية عن العقلية العربية؟

هاجر منصوري: لا أعتقد أن العقلية التونسية منفصلة عن عقلية المجتمعات العربية التي تستحكم فيها الذهنية الذكورية بقبضتها التامة على المجالات الحيوية ومواقع القرار، فضلا عن ربطها للأدوار الاجتماعية بالبعد الجنسي، فأن تلحق تاء التأنيث المرء تكون له أدوار معينة مختلفة بالضرورة عن أدوار الذكور.

ولكن سعت دولة الاستقلال مع رئيس الجمهورية الأولى الراحل الحبيب بورقيبة لسن القوانين والتشريعات التي تحاول أن تغير من هذه الذهنية وتوجهها نحو البعد الحقوقي والمساواتي في التعامل مع الجنسين، ولا أدل على ذلك من مجلة الأحوال الشخصية التي صدرت في الثالث عشر من أغسطس 1956، إذ انطوت على تشريعات مهمة لفائدة المرأة التونسية بشكل خاص والأسرة بشكل عام.

وقد ساهم هذا القرار السياسي في توجيه العقلية التونسية نحو مفهوم الشراكة بين الجنسين، وقبول الجنس الآخر على أساس أنه كفؤ بعيدا عن معايير التمييز والعنف، وهو ما تغذت عليه العقلية التونسية وأصبح لها في الغالب قبول لتحرير المرأة وتمكينها من حقوقها كاملة دون حيف أو ظلم فضلا عن قبول الآخر المختلف مهما كان لونه أو عرقه أو دينه ..إلخ

العرب: التابوهات في المجتمع التونسي أهي تابوهات خاصة به؟

هاجر منصوري: اعتقدت في وقت من الأوقات أن التابوهات، أي تلك الخطوط الحمراء التي لا يقبل المجتمع تجاوزها بغض النظر عن كونها مبررة أو متناسقة مع القوانين والشرائع، مصدرها “الدين”. ولكن تبين لي من خلال حفرياتي في تاريخنا الإسلامي المبكر، أن مصدرها اجتماعي فسياسي بامتياز، إذ أن السياسي هو الذي يمنحها شرعيتها تحت ذريعة “الديني”.

وما يزال هذا التمويه متواصلا إلى الآن. فمصدر التابوهات فيما أزعم هو “سياسي” ولكنه يتلون بما هو “اجتماعي” تارة وبما هو “ديني” تارة أخرى، على أنه يتغلغل في اعتقادنا أن مصدرها كله “ديني” وهذه مشكلتنا الكبرى.

على الباحث العربي أن يحين من أدواته النقدية بما يتوافق والمتغيرات التي يشهدها عصر العولمة والحداثة الفكرية

تونس لا تشذ عن هذا التمويه، وهي مثلها مثل جميع المجتمعات العربية تجعل من ثالوث “الدين” و”الجنس” و”السياسة” من التابوهات المحرمة. فلا يمكن التوغل أكثر في قضايا الخطاب الديني إلا في حرم بعض الجامعات المختصة في دراسة هذا الخطاب، ولا يمكن الحديث عن الجنس وقضايا الجسد والمثلية الجنسية، كذلك لا يمكن الحديث عن الساسة والسياسة، إذ تتلبس بالمواطن/ـة حالة من التوجس في تناول مثل هذه المواضيع خوفا عن مراقبته وعقابه، وإن شهدت تونس إبان ثورة الرابع عشر من يناير انفتاحا في التعاطي الإعلامي والثقافي في مثل هذه المواضيع إلا أنه سرعان ما عاد إلى الخطوط الحمراء التي تسيج هذا الثالوث ومتعلقاته.

تغيير الأفكار

العرب: كيف نصل للمعنى في النص الديني؟

ما توهمنا به الأصوليات الدينية المتعددة الفرقية منها والمذهبية أن للنص الديني القرآني والحديثي قراءة مرجعية واحدة، ثابتة وعابرة للزمان والمكان. وتسعى لأن ترسخ هذا الوهم لدى أتباعها، بمفاهيم كل واحدة منها وبمرجعياتها الخاصة بها على مستوى انتمائها العقدي أو المذهبي وحتى السياسي.

وتسقط بعد ذلك كل قراءة يقدمها الآخر بما في ذلك الآخر المعاصر الذي استوعب مفهوم السياق المذهبي والتاريخي وأدرك وطأته على القدامى في قراءتهم للنص الديني، وفهم أن قراءة هؤلاء للنص في حينها تمكنت من إيصال المعنى الحقيقي لهم والذي يرونه الوحيد والأوحد في حين أن المعنى الكامن في النص الديني متجدد بتجدد الإنسان وقراءته له وفقا لفهوماته وآلياته الفكرية الخاصة بعصره.

 هذا الأمر يستدعي منا الاستشهاد بمقولة لعلي بن أبي طالب في كتابه نهج البلاغة حينما يقول “هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان. وإنما ينطق عنه الرجال”، والرجال في كل عصر يتغيرون وينطقون بما هم يعاينونه ويعيشونه وبفهوماتهم الخاصة للنص الديني وهذا لعمري هو المعنى الحقيقي الكامن في قلب النص، معنى التغير والتجدد.

العرب: المثقفون في هذه المرحلة هل يحتاجون لتغيير أدواتهم أو استعادتها من جديد أم إعادة بناء فكر نقدي؟

d

هاجر منصوري: لنتفق في البدء عن المقصود بالمثقف خاصة وأننا لا نعدم في واقعنا العربي قديما ومعاصرا وجود ثلاثة مواقع له. موقع يرابط فيه مع السلطة، وموقع يرابط فيه ضدها وآخر يكون فيه محايدا، ونحن نحتاج منه في هذه المرحلة الراهنة أن يرابط في الموقع الذي يكون فيه مثقفا موضوعيا وعضويا بالمعنى القرامشي، ينقد وينتقد، يتفاعل مع قضايا عصره، ويقدم رؤى استشرافية لواقع متخلف اقتصاديا وعلميا..إلخ.

هذه الموضوعية والعضوية لن يكتسبهما المثقف إذا فكر بالأدوات التقليدية أو قام باسترجاعها، فبمثل هذه الطريقة إنما يحيي التموقعات التي كانت له في السابق. وعليه ينبغي أن يحين من أدواته النقدية بما يتوافق والمتغيرات التي يشهدها عصر العولمة والحداثة الفكرية، فيتفاعل مع عصره ومع مخرجات التغيرات بما من شأنه أن يسهم في الحراك الثقافي مساهمة فعالة بشكل لا يعميه انتماؤه لأي طرف من الأطراف الفاعلة في الحراك السياسي عن الوجهة الضرورية والأساسية التي ينبغي أن يكون عليها الحراك الثقافي.

العرب: ما هو الممكن وغير الممكن في موضوع  الفكر؟

هاجر منصوري: لا جدال في أن كل بيئة متوازنة تخلق بالضرورة فكرا يناسبها دون أن تتبنى فكرا من خارجها حتى لا يتصدع البناء الهووي لها. ولكن السياق التاريخي العام قديما وحديثا يؤكد مسألة التفاعل الحضاري، إذ لا بناء حضاري متوازن دون مقومات تتأسس عليها حضارة ما ورهانات لا تخلو من تفاعل مع الآخر قائم أساسا على التبني الفعال والتجاوز البناء.

وعليه فإن الفصل بين الخلق والتبني هو فصل منهجي لا أكثر ولا أقل. وثنائية الخلق والتبني أعتقد أنها تتحكم في قانون الحضارات وما تشكله من بيئات متنوعة لها مقوماتها الأساسية وشروط في حدود تفاعلها مع الآخر لا يقصيها أو لا يذيبها. فنحن مثلا نعيش في سياق عولمة عامة تشق كل الكيانات والبيئات وقد تتحكم فينا وتجعل شعوبنا العربية مخبرا إستراتيجيا لها ولمخرجاتها وما لم نضع لها حدودا فقد تخترق خصوصياتنا اختراقا يمحونا في الحراك الحضاري وتحدياته.

الأصنام الثقافية

العرب: كيف ترين مستقبل البحث العلمي في تونس وما تقدمه المؤسسات والمراكز أو الباحثون كأفراد؟

هاجر منصوري: أعتقد أن البحث العلمي في تونس يشكو مثله مثل سائر القطاعات الأخرى من تراجع في مردوديته، وهو واقع في أزمة من صنفين: صنف يرتبط بالميزانية المخصصة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتي لا تفي بوعودها في تحريك عجلة المراكز والمؤسسات البحثية، فكم من مخابر بحثية خاصة في السنوات الأخيرة ضعفت أنشطتها بل منها ما أغلق جراء نقص التمويل المادي لها، وقد عاينت الأمر عن كثب، حينما أجلت العديد من ندوات هذه المراكز البحثية وتأجل نشر العديد من كتبها الجماعية.

يجب الاعتراف أننا اليوم أمام أصنام وأوهام ثقافية تتحدى إنسانية الإنسان والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع

وصنف يرتبط بهيكلة المؤسسات الجامعية التي حولت بناء المعرفة وخاصة في العلوم الإنسانية إلى معرفة تقنية خالية من آليات التفكير النقدي، والمناهج المقدمة لا تخلق طالبا بحاثا وخلاقا بقدر ما تخلق طالبا تقنيا للمعرفة فحسب.

أما الباحثون الأفراد فهم بمفردهم لا يمكن أن ينعشوا مستقبل البحث العلمي، وقد سعى ثلة من الأكاديميين والأكاديميات في اختصاصات متنوعة لاحتضان الباحثين والباحثات وتشريكهم في أعمال جماعية لها جدواها لا محالة في تنشيط البحث العلمي، ولكن تظل رغم ذلك غير كافية في احتضان جميع الكفاءات التي أوصدت أبواب الجامعات دونهم في ظل التقتير المجحف في الانتدابات مما ساهم في تهميشهم، وظلوا يعانون من أفق بحثي أمامهم مختنق ومراسم مؤتمرات افتراضية تثقل كاهلكم، ولوبيات معرفية قد تقصيهم أو تريد احتكار أصواتهم.

العرب: التحرر من الأيديولوجيا لدى الباحث إلى أي حد يكون مهما وأساسيا؟

هاجر منصوري: قد يجد المرء صعوبة في التحرر مما هو “أيديولوجي”، ونعني بذلك مجموعة المُعتقدات والأفكار التي نعدها طبيعية وحقيقية حتى لو لم تكن كذلك بل يجعلنا عقلنا المحض نعتقد أنها كذلك، فنؤمن بها ونسعى لتكريسها ولا نرى ذواتنا وما حولنا من العالم إلا من خلال زاوية تبئيرها.

ولكننا نرى أن الباحث من أوكد آليات البحث العلمية والمنهجية عنده أن يتخلص من ربقة ما هو “أيديولوجي”، ويتوسل في أبحاثه مقاربات بحثية ونظريات علمية تخلص به إلى نتائج موضوعية خالية من كل زيف أو وهم أو توجيه. وبمثل هذه الآليات البحثية والعلمية الصارمة يمكنه أن يرقى بالمعرفة بعيدا عن كل تجاذبات “الأيديولوجي” ومزايداته الخارجة عن نطاق العلم والمعرفة.

العرب: هل تحررت الساحة التونسية من أصنام الثقافة أم أنها مازالت تدور في فلكها؟

الثقافة العربية كما تصنع لها أمجادها وحصونها المنيعة ضد كل غزو ثقافي خارجي قد تتحول في لحظة من لحظات مأسستها إلى صرح من صروح التنميط

هاجر منصوري: إن الثقافة العربية كما تصنع لها أمجادها وحصونها المنيعة ضد كل غزو ثقافي خارجي قد تتحول في لحظة من لحظات مأسستها إلى صرح من صروح التنميط، وفي ظل هذا التنميط تتم صناعة الأصنام، مما يحول المشتغلين في الحقل الثقافي عبيدا لهذه “الأصنام البشرية” وما تنتجه من “تصنيم ثقافي”.

هذا التصنيم من نوع مخصوص، فهو ذهني بالأساس قد يتخذ تارة لونا “دينيا” يفرض خطابا دينيا واحدا وطورا لونا “اجتماعيا” يمارس عنفه الرمزي على الفئات الهشة والمختلفة في لونها ودينها وعرقها وانتمائها، وطورا آخر لونا “سياسيا” يكرس مفهوم الرأي الواحد والسلطة المطلقة.

لا بد من الاعتراف أننا اليوم أمام أصنام وأوهام ثقافية تتحدى إنسانية الإنسان والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع مثل التمييز والتعصب بجميع أنواعه.

وطبعا ما كان للساحة الثقافية التونسية أن تتحرر من هذه الأصنام بل ما تزال تدور في فلكها وتجتر تبعاتها، وقد تتعالى أصوات من هنا وهناك تندد بجميع أنواع “الأصنام”، ولكنها تخبو من جديد في انتظار الثورة الثقافية الحقيقية والمرتبطة بدرجة كبير بوعي التونسي وبإدراكه لكم التحديات الهائلة التي تنتظره وتنتظرنا جميعنا.

11