القوى المدنية في السودان تكرر أخطاء الماضي القريب

أعلنت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” عن تشكيل لجنة لفك الارتباط بين القوى الراغبة في تشكيل حكومة جديدة، والقوى المتحفظة، في ضربة قاصمة لجهود بناء جبهة عريضة تضغط من أجل إنهاء الحرب.
الخرطوم - لم تتعظ القوى المدنية في السودان من أخطاء الماضي القريب التي أفقدتها فرصة قيادة البلاد عقب الإطاحة بنظام الرئيس عمر حسن البشير في العام 2019، وهي تجد نفسها اليوم على هامش المشهد الملتهب في البلاد. وبدل من أن تتدارك القوى المدنية أخطاءها، وتسعى إلى تجميع نفسها وتشكيل جبهة موسعة تضغط من أجل إنهاء الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، انغمست مجددا في قضايا خلافية آخرها الخلاف المستجد حول تشكيل حكومة موازية أو حكومة منفى.
ونتج عن الخلاف الأخير انفراط عقد تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، التي لم تمر أشهر قليلة على تشكيلها، وكان السودانيون يأملون في أن تكون قاطرة الدفاع عن ثورة ديسمبر التي أطاحت بالحكم السابق. ويرى متابعون سودانيون أن ما يحصل اليوم داخل تنسيقية تقدم يصب بالضرورة في صالح الحركة الإسلامية وذراعها حزب المؤتمر الوطني المنحل، الذي تمكن من العودة إلى المشهد بفضل الحرب الجارية، والتي كان من يقف خلف اندلاعها ويعمل باستمرار على تأجيجها، بل وقيادة العمليات العسكرية في المناطق السودانية المختلفة.
وأعلنت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” عن فك الارتباط بين القوى التي تصر على المضي في أمر تشكيل الحكومة، وبين الكيانات والأفراد المتمسكين بعدم تشكيل أي حكومة بصورة منفردة أو مع أي من أطراف القتال. وكانت الجبهة الثورية برئاسة الهادي إدريس وعدد من قيادات “تقدم” عرضت قبل فترة مقترحا يقضي بتشكيل حكومة موازية للحكومة في بورتسودان، التي تشكلت في أعقاب انقلاب قاده الجيش في العام 2021، على الحكومة المدنية التي كان يرأسها آنذاك رئيس تنسيقية تقدم الحالي عبدالله حمدوك.
وتصر الجبهة الثورية وعدد من القوى على المضي قدما في مشروع تشكيل الحكومة، وهو أمر أثار رفضا من عدد من القوى السياسية ومنها حزب الأمة القومي. ويرى مراقبون أن الموقف الرافض لتشكيل حكومة جديدة لا يخلو من انتهازية، وأن الميدان هو المحرك الرئيسي لمواقف الأطراف المتحفظة، لافتين إلى أن في السابق كان هناك نوع من القبول لمناقشة فكرة الحكومة من جميع الأطراف داخل التنسيقية، لكن الوضع اختلف اليوم مع التغير النسبي المسجل على الميدان لصالح الجيش.
◙ في السابق كان هناك نوع من القبول لفكرة تشكيل حكومة، لكن الوضع اختلف مع التغير النسبي على الميدان
وقال بكري الجاك، الناطق الرسمي باسم تنسيقية تقدم، في تصريح صحفي تناقلته وسائل إعلام محلية، إنه جرى تشكيل لجنة للتوصل إلى صيغة فك الارتباط بما يعظم المتفق عليه بين الطرفين، ليعمل كل منهما بصورة مستقلة سياسيا وتنظيميا عن الآخر. وأكد الناطق باسم التنسيقية أن هذه الخيارات لا يمكن أن تتعايش داخل تحالف واحد رافض للحرب وغير منحاز لأي من أطرافها.
وقال بكري الجاك إن الموقف الرسمي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) كان ومازال أنها لا تسعى إلى تشكيل حكومة منفى أو حكومة موازية. وأشار إلى أن التنسيقية تستشعر أثر الحرب البالغ في دفع الجميع نحو الاستقطاب والانقسام، وأعلن أن تقدم ستظل غير منحازة لأي طرف من أطراف الحرب ولا تعترف بشرعية سلطة الأمر الواقع في بورتسودان أو أي سلطة أخرى.
وأكد تمسك تقدم برفض الحرب والعنف كوسيلة لإدارة الصراع السياسي في البلاد والعمل على بناء جبهة مدنية رافضة للحرب ومؤمنة بوحدة البلاد، وأنها شدّدت على المساهمة في إيقاف الحرب عبر العمل الجماهيري والعمل الدبلوماسي بالإضافة إلى العمل على إنهاء الحرب عبر حوار شامل لكل القوى الفاعلة يؤسس على مشروع متكامل للعدالة والعدالة الانتقالية.
وتبدو إشارة المتحدث باسم التنسيقية إلى حوار شامل حمالة أوجه، وتعكس وفق مراقبين ربما تغيرا في موقف الهيئة القيادية بشأن إمكانية التفاوض مع حزب المؤتمر الوطني المنحل، وهو أمر لم يكن مطروحا في الوقت القريب. ويربط المراقبون ذلك بالمكاسب التي حققها الجيش وحلفاؤه الإسلاميون في الفترة الأخيرة ولاسيما في العاصمة الخرطوم وشمال كردفان.
وأقر قائد قوّات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، الجمعة، وبطريقة غير مباشرة بالانتكاسات التي تكبّدتها قوّاته في العاصمة. وفي خطاب نادر على التلفزيون، دعا دقلو الملقّب بـ”حميدتي” إلى “عدم التفكير في أنهم (أي عناصر الجيش) دخلوا القيادة أو دخلوا (معسكر سلاح) الإشارة… أو استلموا الجيلي أو استلموا مدني” في جنوب الخرطوم.
والأسبوع الماضي، أكّدت قوّات الدعم السريع أن إعلان الجيش فكّ الحصار عن مصفاة الجيلي النفطية في شمال الخرطوم، وهي الأكبر من نوعها في البلد، والسيطرة عليها ليس سوى شائعات هدفها تضليل الرأي العام. غير أن حميدتي توعد الجمعة بأن عناصر الجيش لن يستفيدوا من مقرّ القيادة أو معكسر سلاح الإشارة لفترة طويلة، متعهّدا بـ”طردهم”، كما حصل سابقا، بحسب قوله في التسجيل الذي ظهر فيه في الزي العسكري من مكتبه.
◙ السبيل الوحيد لإنهاء النزاع هو الجلوس إلى طاولة التفاوض، وغير ذلك فإن السودان مقبل على سنوات طويلة من الصراع
وكان قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، قد تفقّد مقرّ القيادة العامة للقوّات المسلّحة الأحد بعد أن استعاده الجيش من قوات الدعم السريع. ولم تكن لدقلو إطلالات علنية طوال الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 واقتصرت خطاباته على تسجيلات صوتية متداولة عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وفي بداية الحرب، سيطرت قوّات الدعم السريع على جزء كبير من الخرطوم متقدّمة نحو الجنوب وأيضا سيطرت على ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني التي استعادها الجيش هذا الشهر.
وفي الأسابيع الأخيرة بدأ الجيش في تكثيف هجماته على الخرطوم، ودخل القطاع الشمالي في العاصمة (بحري). وأفاد مصدر عسكري بتواصل المعارك الجمعة في حيّ كافوري، أحد آخر معاقل قوّات الدعم السريع في شرق الخرطوم بحري. وكشف دقلو في خطابه عن “أربع معارك في بحري”، متعهّدا بانتصار قوّاته. ويرى محللون أن ما حققه الجيش في الفترة الأخيرة لا يعني أنه في طريقه لحسم الصراع فقوات الدعم السريع لا تزال تسيطر على مناطق مهمة ومنها معظم إقليم دارفور، غرب البلاد.
ويشير المحللون إلى أن السبيل الوحيد لإنهاء النزاع هو الجلوس إلى طاولة التفاوض، وغير ذلك فإن السودان مقبل على سنوات طويلة من الصراع، لافتين إلى أن القوى الرافضة للحرب للأسف لا تملك أدوات التأثير الكافية، فضلا عن كونها مشتتة ومنقسمة على ذاتها.
وأدّى النزاع في السودان إلى كارثة إنسانية هائلة مع مقتل العشرات من الآلاف ونزوح أكثر من 12 مليون شخص، فيما الملايين على حافة المجاعة. ويواجه طرفا النزاع اتهامات بارتكاب جرائم حرب ولاسيما استهداف المدنيين وشنّ قصف عشوائي على منازل وأسواق ومستشفيات، وعرقلة دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية. وقبيل انتهاء ولايته، فرض الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عقوبات على البرهان. واتّهمت إدارته الجيش السوداني بشن هجمات على مدارس وأسواق ومستشفيات واستخدام الحرمان من الغذاء سلاحا في الحرب. وجاءت تلك العقوبات بعد نحو أسبوع على فرض واشنطن عقوبات على دقلو الذي اتّهمت قواته بـ”ارتكاب إبادة جماعية”.