القوى الحاكمة في العراق ترد جميل منقذيها من انتفاضة 2019

إخلاء سبيل ضابط مدان بارتكاب مجزرة جسر الزيتون في الناصرية.
الخميس 2024/08/15
تنظيف أولي ثم يأتي دور القضاء

الغطاء القضائي الذي تمّ تحت عنوانه تبييض صفحة ضابط عراقي مدان بقتل متظاهرين ومتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة ترقى إلى مستوى جرائم حرب، لا يخفي الخلفية السياسية للعملية التي جاءت تكريسا لظاهرة الإفلات من العقاب المرتبطة باستخدام قوى نافذة في مؤسسات الدولة لسلطاتها الكبيرة في حماية أذرعها وتحصينهم من المحاسبة.

بغداد - أثار قرار السلطات العراقية إطلاق سراح ضابط في قوات التدخل السريع تنفيذا لقرار قضائي كان قد صدر بإلغاء إدانته بقتل متظاهرين، حالة من الامتعاض في الشارع العراقي نظرا لما انطوى عليه القرار من تكريس لظاهرة الإفلات من العقاب القائمة فعلا في البلد، ولما حمله من مؤشرات سلبية على عدم استقلالية الجهاز القضائي وعلى خضوعه لتأثيرات قوى نافذة من أحزاب حاكمة وفصائل مسلّحة.

وكانت محكمة الاستئناف قد أصدرت في وقت سابق قرارا بإلغاء عقوبة الضابط عمر نزار فخرالدين المحكوم عليه بالسجن المؤبد بتهمة قتل متظاهرين في محافظة الناصرية عام 2019، والملاحق أيضا بشبهة ارتكاب انتهاكات ترقى إلى مستوى جرائم حرب في الموصل خلال الحرب ضدّ تنظيم داعش في محافظة نينوى.

وقالت جهات حقوقية عراقية إنّ تبرئة الضابط وإطلاق سراحه لم يعدا يشكّلان سابقة في البلد وإنّ هناك سلسلة أطول من عمليات تبييض صفحة العديد من الأمنيين ورجال الميليشيات الذين شاركوا بفاعلية في قمع المشاركين في انتفاضة سنة 2019 واغتيال النشطاء المساندين لها. وأوضحت الجهات ذاتها أنّ ذلك يأتي تنفيذا لالتزامات واضحة وتعهدات صريحة من قبل قادة الأحزاب والفصائل الشيعية الحاكمة في العراق بعدم ترك من قمعوا الانتفاضة لمصيرهم وبالعمل على إنقاذهم من العقوبات حتى بعد أن يتمّ إقرارها من قبل القضاء.

وقال أحد الحقوقيين طالبا عدم الكشف عن هويته، حرصا على سلامته، إنّ إنقاذ المشاركين في قمع المتظاهرين من العقاب يعدّ مكافأة منطقية لمن ساعدوا النظام القائم على الصمود في وجه الانتفاضة المذكورة التي بلغت درجة غير مسبوقة من العنف وأصبح إسقاط النظام هدفا معلنا للمشاركين فيها.

وشهد العراق بدءا من أكتوبر 2019 موجة تظاهرات كبيرة غير مسبوقة عمّت العاصمة بغداد ومعظم مناطق جنوب البلاد واستمرت أشهرا للمطالبة بتغيير النظام، غير أنها تعرضت لقمع دام أسفر عن مقتل أكثر من 600 شخص وإصابة الآلاف بجروح، فضلا عن موجة الاغتيالات التي أعقبتها واستهدفت قياداتها والمتعاطفين معها.

وكان مسؤولون قضائيون عراقيون قد كشفوا في مارس الماضي لوكالة رويترز عن تبرئة محكمة عراقية لضابط شرطة أدين في السابق وحكم عليه بالإعدام لقيادته مجموعة قتلت بالرصاص المحلل والمستشار الحكومي المعروف هشام الهاشمي قبل أكثر من ثلاث سنوات. وقال محام حضر آنذاك جلسة محكمة الجنايات في بغداد إن المحكمة أسقطت التهم الموجهة إلى أحمد حمداوي بشأن قضية مقتل الهاشمي لعدم كفاية الأدلة، وقالت إنّ اعترافاته السابقة لا تصلح للإدانة.

◙ حجة عدم كفاية الأدلة المستخدمة في تبرئة الضابط المتورط في مجزرة الناصرية استخدمت في تبرئة قاتل هشام الهاشمي

ولاحقا قالت مصادر محلية إنّ حمداوي استرجع كافة حقوقه المدنية وحصل على وثيقة سفره وغادر العراق إلى إيران. وعادت حجّة عدم كفاية الأدلة لتُستخدم مجدّدا في قضية الضابط فخرالدين، حيث جاء في قرار محكمة الاستئناف التي أصدرت الحكم بتبرئته نهاية يوليو الماضي أنّ “الأدلة المتحصلة في الدعوى ضد المتهم عمر نزار فخرالدين محل شك. والشك يفسر لصالح المتهم”.

وكانت محكمة الجنايات في محافظة ذي قار قد أدانت في يونيو 2023 الضابط في قوات الرد السريع التابعة لوزارة الداخلية “لإصداره الأمر بإطلاق الرصاص الحي على متظاهرين على جسر الزيتون في الناصرية، ما تسبب في وقوع قتلى وجرحى".

وأشار الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف إلى “نقض كافة القرارات الصادرة في الدعوى وإلغاء التهمة الموجهة للمتهم المذكور، والإفراج عنه لعدم كفاية الأدلة المتحصلة ضده وإخلاء سبيله". وأوضحت المحكمة في قرارها أن “المشتكين لا توجد لديهم شهادة عِيَانِيّة ضده. وقد جاءت أقوالهم متناقضة مع بعضها البعض بصدد مشاهدتهم له في مكان الحادث من عدمه".

وأكد مسؤول أمني لوكالة فرانس برس الأربعاء إطلاق سراح الضابط فخرالدين الذي جرت محاكمته بشأن مقتل نحو عشرين متظاهرا وإصابة حوالي 190 آخرين في 28 نوفمبر 2019. وأدى الغضب الذي أثاره قمع المحتجين على جسر الزيتون في أحد أعنف الحوادث خلال التظاهرات، إلى استقالة رئيس الوزراء آنذاك عادل عبدالمهدي. وبحسب وسائل إعلام عراقية فإنّ للضابط المذكور سوابق أخرى تعود إلى مرحلة مشاركته في الحرب ضدّ تنظيم داعش بين سنتي 2014 و2019.

وأورد موقع رووداو الإخباري الأربعاء أنّ القضاء العراقي سبق له أن أوقفه في فبراير 2022 على خلفية نشر منظمة “إنهاء الإفلات من العقاب” تحقيقا مصورا يوثق انتهاكات مارسها في معركة الموصل. وتوثّق المقاطع بحسب المصدر نفسه “ارتكاب فخرالدين وقواته عمليات إعدام ميدانية بحق مدنيين واغتصاب نساء وأطفال”، خلال عمليات استعادة محافظة نينوى من سيطرة داعش.

وتضمن التحقيق شهادة مصور صحفي كان قد واكب معركة الموصل ووثق بعضا من انتهاكات فخرالدين ورفاقه في عام 2017. وأشار إلى أن الضابط كان على رأس مجموعة من أربعة جنود ترتكب عمليات الاغتصاب والقتل، وقد أفلتوا جميعا من العقاب على الرغم من وجود أدلة دامغة تثبت تورطهم في انتهاكات فظيعة.

وعلى عكس المنتظر حظي فخرالدين بمكافأة بعد نهاية المعارك إذ تمت ترقيته إلى رتبة عسكرية أعلى من قِبل وزارة الداخلية. وصدرت خلال السنوات الماضية عن القضاء العراقي إدانات محدودة ونادرة، تتعلق بقتل نشطاء وصحافيين خلال الاحتجاجات.

وفي يونيو 2022 ندّدت بعثة الأمم المتحدة في العراق بـ”بيئة الخوف والترهيب” التي تقيد حرية التعبير في البلاد. وتحدث التقرير الأممي عن “استمرار الإفلات من العقاب في ما يتعلق بالهجمات على المتظاهرين والناشطين المعارضين الذين يتبنون آراء تنتقد العناصر المسلحة والجهات السياسية الفاعلة المرتبطة بها”.

3