القطارات تحكي قصص المهاجرين في أنحاء العالم

قصص فاتح عبد السلام في مجموعته الجديدة تنتهي بالانكسار في منلوج لدواخل الابطال.
الجمعة 2019/11/29
القطارات كائنات تواسي المتعبين (لوحة للفنان أميت كابور)

القصة التي يكتبها عراقيون يعيشون خارج العراق لها طابع خاص، فهي تعكس حالات انكسار الشخصية العراقية بالرغم، من المعاني الإنسانية النبيلة، التي تحملها أغلب هذه القصص عن العراقيين، الذين هاجروا لأسباب مختلف. وهذا ما تثبته المجموعة القصصية الجديدة لفاتح عبدالسلام بعنوان “قطارات تصعد نحو السماء”.

قصص المجموعة القصصية الجديدة لفاتح عبدالسلام “قطارات تصعد نحو السماء” تنقل لقارئها نماذج من الشخصيات المهاجرة المنكسرة. نماذج حملت في نفوسها من مشاعر الطيبة والشجاعة والثقافة والإحساس العميق بإنسانيتها، مما أثقل كفتها في ميزان الأعراق المهاجرة.

وقد كتبت قصص المجموعة في سنتين بين 2017 ــ 2019، فجاء كل نص منها حاملا اللوعة ذاتها، ولكن بلغة شعرية متميزة، وتقنيات مختلفة.

قطارات مؤنسة

تحيلنا إحدى هذه القصص المعنونة “برّيّة في قطار” إلى ظروف كتابة القصص. ولنا هنا أن نشير إلى ما لعنوان كل قصة من قصص المجموعة من دلالة ورمزية خاصة أضافت للنص بعدا نفسيا، وإضافة بنيويّة نقلت الخصائص النفسية للشخصية بشكل واضح إلى القارئ، فعلى سبيل المثال تسمية “برّيّة” التي تعني الصحراء المجدبة، أضافت فهما عميقا لبطلها القاص، ولنقرأ العنوان مجددا “برّيّة في قطارــ صحراء في قطار” وهي الثيمة الرئيسية للقصة بجميع أبعادها.

حنين إلى الوطن
حنين إلى الوطن

تحكي القصة عن تعاقد كاتب عراقي يقيم في بريطانيا منذ ثلاثة عقود مع ناشره على كتابة قصة في كل يوم. وهو لا يستطيع تحقيق هذا الشرط في بيته الريفي المنعزل عن العالم الذي يعيش فيه في عزلة عن الناس منذ زمن بعيد. فيقرر اصطحاب “اللابتوب” معه والسفر ببطاقة قطارات مجانيّة منحتها الحكومة للمتقاعدين أمثاله توصله إلى مركز مدينة لندن.

فبدأ يكتب عن شجون الماضي الذي عاشه في العراق، وكان مستغربا موافقته على شروط الناشر، الذي كان صديقا قديما له تعرف إليه حين كان في الأربعين من عمره، وصار اليوم في السبعين. وتساءل، هل أراد بموافقته الناشر على عرضه كسرعزلته المريرة التي يعيشها؟

كان في رحلته المكوكية الأخيرة قد وصل لندن، وزار ابنته الوحيدة، وبعد أن قضى وقتا طيبا في بيتها أراد العودة إلى بيته، فطلبت منه ابنته أن يمضي ليلته في منزلها. لكنه أخبرها أنه لا يستطيع تغيير فرشة نومه، والغريب أنه حين خرج ترك اللابتوب في بيت ابنته. وكان يشعر بخفة عجيبة في بدنه، وحين صاحت عليه ابنته مذكرة، أنه نسي “اللابتوب” أخبرها أنه ليس بحاجة لحمله بعد اليوم، فقد كتب قصته الأخيرة.

الدلالة على الانكسار واضحة في هذه القصة، ونجدها كذلك في نهايات قصص كثيرة من المجموعة، سواء تلك التي كتبت عما يدور في دواخل الأبطال بالمنلوج الداخلي، أو بالديالوج الحواري الخارجي، أو بالسرد المباشر، وباستخدام ضمير “أنا” الذي تواصل به الكاتب مع قارئه مباشرة وبحميمية.

القطارات في المجموعة هي قطارات مُؤِنسة، فهي مكان لكل قصة في المجموعة، ولكنه ليس مكانا جامدا لا يعني وجوده إلا سينوغرافيا تأثيثية ثابتة، بل يمكن اعتباره جزءا حيويا من كل قصة. قطارات مملوءة بالإحساسات مثل كيانات حية، وتستطيع أن تتخيلها حزينة لحزن مسافريها من المهاجرين، الذين انتهت أعذارهم بالبقاء في بريطانيا، وقررت المحاكم البريطانية عودتهم إلى بلدانهم قسرا، لأنها صارت آمنة.

قاعدة "سبايكر"

في قصة “لو لم تكن المحطة الأخيرة قريبة” ففي إحدى عربات قطار ليلي نقرأ عن وداع حزين بين فتاة وحبيبها، الذي سيتم ترحيله إلى بلده في الصباح.

وداع عاطفي نقل الكاتب دفقات فيه من عواطف مشبوبة، نقلت القارئ فيها عبر حوارات شجية بين الفتى والفتاة في القصة وملامسات أصابعهما مجسدا للغة أخرى للتعبير عن عاطفتيهما العميقتين. كل هذه العواطف النبيلة تنقلنا إلى عالم ضاج بالظلم وغير عادل تماما، وهذا ما نجده في قصة “من بغداد إلى ديفالي” أيضا. التي حكت عن انتظارعراقية مهاجرة تعيش في بريطانيا في محطة القطار، لصديقتها الهندية، اللاجئة التي هربت من بلادها خوفا من المتعصبين، الذين رأوا صورة الشاعر طاغور في منزلها، فظنوه رجل دين من طائفة أخرى، فكادت هي وأفراد عائلتها أن يقتلوا ليلتها.

مكان متحرّك
مكان متحرّك

في  قصة “تحت سماء القبعات” التي تحكي عن طالب اللجوء الذي استقل قطارا ذاهبا إلى لندن، ليلتقي محاميه، الذي يتابع له طلب لجوئه، فهو يرى جميع المسافرين كقبعات خالية من الرؤوس. وفي “العراقي الذي حرَّر لندن” الذي جاء عنوانها تهكميا، فقد حملت من المرارة الشيء الكثير. وفيها حكى عن عامل من أصل عراقي يعمل في غرفة السيطرة على حركة القطارات، وتقرر نقابة العمال تحقيق إضراب لتوقيف جميع القطارات الذاهبة إلى لندن.

فيعطي رئيس النقابة التعليمات له، بإدخال الكود الذي سيوقف قطارات لندن، ولكن العراقي بإحساس إنساني نبيل يقررعدم تنفيذ الأوامر في اللحظة الأخيرة، لئلا تتضرر مصالح المسافرين العائدين من أعمالهم أو الذاهبين إلى لندن. وثيمة القصة قريبة من ثيمة “قفزة القرد” التي تحكي عن جندي عراقي سابق يعيش في بريطانيا لاجئا، فتقع في مدرسة طفله “سامي” عملية إرهابية. يختطف خلالها إرهابيان عددا من أطفال المدرسة وذويهم، فينقذهم منهما بالتعاون مع الشرطة.

تسمع القطارات في متن كل قصة مترنمة، وكأن صريرعجلاتها على السكك الحديدية أنغاما تتردد على طول السكك الممتدة، فتثير الشجن في نفوس أولئك الحزانى، الذين اعتصرتهم الحياة، وخلفت في نفوسهم ندوبا لا تمحى، كندبة بطل قصة “لولايكا” الذي يضع مقارنة بين فقدان بريطانية لقطتها “لولايكا” وبحثها الدؤوب عنها، وحزنها المريرعليها، حتى يعثر عليها أخيرا أحد جيرانها، وبين فقدانه لأخيه شاكر، الذي راح ضحية المذبحة، التي حدثت لطلاب القوة الجوية العراقية الذين اقتادتهم داعش من قاعدة “سبايكر”. وعودته إلى العراق حاملا فديته، التي اقترضها من البنك والأصدقاء، لكنه لا يفلح في معرفة مصير أخيه، وعاد إلى لندن بنفس كسيرة.

المجموعة كتبت قصصها بتقنيات تيار الوعي، واعتمدت التحليل النفسي لأبطالها، وقد لخصت قصة “الضفدع الرمادي” ثيمة المجموعة كاملة، ببطلها المهرج اللاجئ الأجنبي، الذي يعزف للمسافرين في القطارات. وكان كل غرضه أن يفهم المسافرون البريطانيون، الذين يتحاشونه، ويتشاءمون منه، لأنه يذكرهم ببطل فيلم “الضفدع الرمادي” من تمثيل توماس زاكو، فهم يرمون عليه النقود، ليبتعد عنهم، لكنه يرفض مالهم. ويقول لهم، إنه لا يريد نقودهم بل فقط يريد أن يشعروا بأنه إنسان مثلهم.

ونذكر أن مجموعة “قطارات تصعد نحو السماء” صدرت للكاتب مؤخرا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ولفاتح عبدالسلام مجموعات قصصية سابقة نذكر من بينها “آخر الليل.. أول النهار” 1982، “الشيخ نيوتن” 1986، “فحل التوت” 1993، “حليب الثيران” 1999، “عين لندن” 2011. والعديد من الروايات والكتب النقدية.

14