القضية الكردية في تركيا.. التبعات المؤثرة

العلاقة بين عبدالله أوجلان وقيادة حزبه في جبال قنديل أشبه ما تكون بعلاقة الإخوة الأعداء. فهم يعرفون بعضهم جيدا، وكل طرف يعرف نقاط قوة وضعف الطرف الآخر، ويدرك ماهية الهواجس والتحالفات، وعلى بيّنة من طريقة تفكيره وأساليب التحريك والتعمية التي يمارسها.
وليس سرا أن هناك حالة تنافسية بين الجانبين، تصل إلى درجة الخصومة التي تتمظهر أحيانا عبر اتهامات بعدم الفهم، أو العجز عن اتخاذ القرار الحر. ولهذه الظاهرة مقدماتها وأسبابها التي تعود إلى مرحلة ما قبل اعتقال أوجلان عام 1999. غير أنها باتت مكشوفة يلاحظها المتابع المتمعّن بسهولة في السنوات الأخيرة.
ولكن الذي يستوقف بالنسبة إلى هذا الموضوع راهنا هو حاجة الطرفين إلى بعضهما البعض، وحرصهما على العلاقة التكاملية، التي تربط بينهما وتخدمها. فأوجلان من جهته يحتاج إلى قوة التنظيم الذي تشرف عليه وتتحكّم فيه قيادة حزب العمال الكردستاني عبر مختلف الأجهزة التابعة لها. والقيادة المعنية تحتاج إلى اسم أوجلان الذي بات بمثابة الهوية المحدّدة للحزب المعني، وبالتالي غدت كل النشاطات والفعاليات، بما في ذلك الاعتصامات، وحالات الإضراب عن الطعام في السجون، تنظم وتنفذ باسمه، بل لقد أصبح الشعار القائل: لا حياة من دون الرئيس/القائد، بمثابة ألف باء التنظيم.
ورغم ظهور انتقادات هنا وهناك لبعض تصريحات أوجلان التي لا تتوافق صراحة مع سياسات قيادة حزب العمال في قنديل، إلا أن أحدا من تلك القيادة لم يتجرأ حتى الآن على طرح اسمه أو اسم غيره بديلا عن أوجلان.
حل القضية الكردية في تركيا سيمكنها من أداء دور إقليمي جامع بين القوى الإقليمية الأساسية، وهو دور تمتلك تركيا إمكانيات القيام به، والتصدي لتحدّياته
بناء على ما تقدم نلاحظ أنه بعد كل حالة إرباك نجد من يخرج من القيادة المعنية ليؤكد أن أوجلان هو القائد، والممثل الشرعي الذي يمكن للدولة التركية أن تتفاوض معه من أجل الوصول إلى حل. ولعل ما جاء في المقال الذي نُشر مؤخرا باسم جميل بايك في واشنطن بوست بتاريخ 3 يوليو 2019، وتمحور حول الدعوة إلى إنعاش العملية السياسية لحل القضية الكردية في تركيا، يقدّم نموذجا حيا في هذا المجال.
فبعد التصريحات التي كان قد أدلى بها أوجلان عبر أكاديمي كردي زاره، وهي التصريحات التي أكدت أهمية مراعاة حساسيات الدولة التركية إزاء ما يجري في سوريا بعين الاعتبار، وأبرزت موقف أوجلان الداعي إلى التزام الحياد في عملية إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول. وبعد سلسلة من التصريحات والكتابات النقدية الرافضة التي كانت من الوسط المحسوب على حزب العمال، الأمر الذي دفع ببعضهم إلى التكهن بحدوث حالة انشقاق نهائية بين التيار الأوجلاني، وذاك الذي يقوده جميل بايك في حزب العمال، أي حالة انقسام بين الجناح السياسي ومن ضمنه حزب الشعوب الديمقراطي، والجناح العسكري الذي تمثله قيادة قنديل التي تهيمن على مختلف التشكيلات العسكرية والأمنية للحزب، بما في ذلك تلك القوات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا.
فبعد كل ذلك، جاء مقال بايك المشار إليه، الذي يبدو أنه يأتي ضمن حملة علاقات عامة تهدف إلى تسويق حزب العمال الكردستاني، والتشكيلات التابعة له، ليحاول مجددا تأكيد زعامة أوجلان من موقع الرغبة في الاستفادة من اسمه. ورغم أن المقال يبدأ بفكرة ضرورة العمل من أجل الوصول إلى حل للقضية الكردية في تركيا، واستغلال الظروف قبل أن تتبدد الفرصة التي قد لا تتكرر إلا بعد مرور عقود، إلا أن الحيثيات التي يعتمد عليها لتسويق فكرة الدعوة مجددا إلى المفاوضات هي متعارضة ومتناقضة.
فبعد المقدمة التي ترى في حزب العدالة والتنمية التركي خطرا على الأمن والسلام الإقليميين بل والدوليين، يستعرض صاحب المقال الخطوات التي أقدم عليها الحزب بروحية إيجابية من أجل دفع المسار السياسي إلى الأمام ويحمّل الحكومة وزر الإخفاقات. ولا يأتي أبدا على ذكر مظاهر وأساليب الاستفزاز التي لجأ إليها حزب العمال أثناء العملية السلمية، فهو لا يشير مثلا إلى عمليات حفر الخنادق في المدن الكردية، ويتجاهل عمليات قتل الشرطة التي أقدم عليها عناصر الحزب المعني، وكل ذلك انتهى بحملات عسكرية كبرى قمعية من جانب الحكومة التركية، طالت العديد من المدن الكردية منها نصيبين وآمد/ ديار بكر والجزيرة.
والأمر اللافت في المقال المذكور الذي يلامس جانبا من الحقيقة وليس كلها، هو إشارة صاحبه إلى أن حزب العدالة والتنمية تعامل مع ملف العملية السلمية الخاصة بالقضية الكردية من موقع نفعي براغماتي سياسي انتخابي. ولذلك يقول بايك بأنهم لن يدخلوا في مفاوضات ثنائية مع الحزب المعني، بل يدعو إلى إشراك سائر القوى الديمقراطية في تركيا.
ومن الملاحظ أن هذه النقطة تلامس الحقيقة بصورة جزئية كما أسلفنا. ففي الوقت الذي يطالب بايك بتوسيع دائرة المفاوضين من الجانب التركي، يقدم حزبه، بل زعيمه، بوصفه المفاوض الوحيد الشرعي من الجانب الكردي، وهذا ما لا يستقيم مع الوقائع والحقائق. فالقضية الكردية في تركيا هي قضية وطنية عامة، كانت موجودة قبل تأسيس الجمهورية التركية، ولا تخص هذا الحزب أو ذاك، لذلك فإن الوصول إلى حل بشأنها يستوجب تحويلها إلى قضية رأي عام، تكون محورا للاهتمام والعمل الإيجابيين من جانب الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة، إلى جانب حزب العمال الكردستاني والأحزاب الكردية الأخرى، فضلا عن الهيئات والفعاليات الثقافية والمجتمعية والاقتصادية الكردية.
بالتوافق مع ذلك، نرى أن أي حوار مستقبلي مطلوب يرمي إلى حل هذه القضية بصورة عادلة ضمن إطار وحدة البلاد، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ضرورة احترام الخصوصية والحقوق القومية، والتعديلات والصلاحيات الإدارية المناسبة التي يتم التوافق عليها خلال المفاوضات. ولا يمكن لحوار من هذا القبيل أن يكون ناجحا وفاعلا من دون مشاركة مختلف القوى السياسية والمجتمعية التركية والكردية.
رغم ظهور انتقادات هنا وهناك لبعض تصريحات أوجلان التي لا تتوافق صراحة مع سياسات قيادة حزب العمال في قنديل، إلا أن أحدا من تلك القيادة لم يتجرأ حتى الآن على طرح اسمه أو اسم غيره بديلا عن أوجلان
فالقضية كبيرة بتاريخها وتعقيداتها وحجمها الديموغرافي والجغرافي، والحساسيات المرتبطة بها، فضلا عن تأثيراتها على الواقع التركي الداخلي والإقليمي المجاور. ومن أجل ذلك كله لا بد أن تكون هذه القضية خارج إطار الحسابات والمنافسات الحزبية، والموازين الانتخابية، بل لا بد أن تكون موضوعا لحوار وطني شامل، يحرص على الحل، لتغدو المسألة الكردية في تركيا ركيزة من ركائز الوحدة الوطنية، وجسرا للتواصل بين الأكراد والأتراك في الجوار الإقليمي، وأساسا لاستقرار إقليمي يشمل شعوب المنطقة كلها من دون أي استثناء.
ومما هو جدير بالإشارة إليه في هذا السياق هو ضرورة الإقدام على جملة خطوات جريئة تمهيدية تعزز الثقة، وتفتح الأبواب المسدودة، كإطلاق سراح السجناء السياسيين، وسجناء الرأي، وتنظيم حوارات معمقة بين الأكاديميين والمثقفين الأتراك والأكراد من مختلف التوجهات والانتماءات، وعقد لقاءات بين الاقتصاديين والفعاليات المجتمعية من الجانبين، واستبدال الإقامة الجبرية لأوجلان بسجنه في إيمرلي.
هذه الخطوات وغيرها، ستعزز الثقة بجدية توجه الدولة التركية نحو حل الموضوع الكردي، وستقطع الطريق على المستفيدين من الصراعات والحروب، وستؤثر من دون شك في الموقف الغربي، والأميركي تحديدا لصالح التوجهات الإيجابية.
ولكن الأهم من كل ذلك، فإن حل القضية الكردية في تركيا سيمكنها من أداء دور إقليمي جامع بين القوى الإقليمية الأساسية، وهو دور تمتلك تركيا إمكانيات القيام به، والتصدي لتحدّياته، ولكن كل ذلك لن يكون قبل ترتيب أمور البيت التركي الداخلي.