القضاء العراقي يتحرّك على وقع الضجيج الإعلامي المثار حول سرقة القرن

الضجة المثارة حول سرقة القرن في العراق وضعت حكومة محمد شياع السوداني في موقف لا تحسد عليه وجعلتها عرضة لضغوط متقاطعة من قبل جهات تدفع باتجاه إجلاء حقيقة القضية ومعاقبة المتورطين الحقيقيين فيها، وأخرى تدفع باتجاه لملمة الملف بأقصى سرعة قبل أن يتحوّل إلى قادح لانتفاضة جديدة في بالشارع ذي الحساسية الاستثنائية لقضايا الفساد وهدر المال العام.
بغداد - أصدر القضاء العراقي أمرا بإلقاء القبض على كلّ من رجل الأعمال نور زهير المتّهم الرئيسي في قضية ما بات يُعرف بسرقة القرن، إلى جانب النائب السابق في البرلمان هيثم الجبوري، وذلك في تحرّك بدا بمثابة تفاعل مباشر من الضجيج الإعلامي المثار حول القضية التي يكتنفها الكثير من الغموض وتدور الشبهات بشأن تورّط قوى نافذة بالدولة فيها.
وكان زهير المتهم باختلاس ما يصل إلى 2.5 مليار دولار من أموال الأمانات الضريبية، قيد الاحتجاز على ذمة القضية عندما تم إطلاق سراحه في شهر أكتوبر 2022 بكفالة مالية، الأمر الذي أثار استغراب متابعي القضية من رأي عام وجهات سياسية وإعلامية وحقوقية أجمعت على وجود رغبة في خلط أوراقها بهدف التغطية على دور جهات أقوى نفوذا من زهير وقد تكون المحرّك الأصلي للسرقة والمستفيد الأكبر منها.
وما تزال القضية منذ ذلك الحين تسبب حرجا لحكومة رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني التي تقيم جزءا هاما من دعايتها السياسية على جهودها في محاربة الفساد ووقف نزيف هدر المال العام ونهبه.
وتستبعد العديد من الأوساط العراقية أن يكون زهير قد تمكّن من مغادرة السجن والسفر خارج البلاد دون مساعدة من جهات نافذة في الحكومة، وذلك لعرقلة إجراء محاكمة تناسب حجم السرقة الضخمة وقد تفضي إلى الكشف عن أسماء مسؤولين كبار في الدولة وربما قادة أحزاب وفصائل مسلّحة مشاركين في تشكيل الحكومة الحالية.
ويعتبر الفساد سمة ملازمة للنظام القائم في العراق على المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية والمعتمد على تخادم القوى المشاركة في الحكم وعقد الصفقات لتقاسم المناصب السياسية والمواقع الإدارية الهامة وما تتيحه من منافع مادية.
وكثيرا ما أدّى انغماس مختلف القوى المشاركة في السلطة في الفساد ونهب المال العام إلى منع المحاسبة وعرقلة جهود مقاومة الظاهرة ذات الأثر السيء على البلد وسكانه اقتصاديا واجتماعيا، حيث كان السؤال المطروح باستمرار: من المخوّل بمحاسبة من إذا كان الجميع فاسدين؟
وأثارت جهات عراقية من بينها مسؤولون في الدولة ونواب في البرلمان أكثر من مرّة موضوع النهب الممنهج للمال العام. وتحدّث البعض عن أرقام تصل إلى 400 مليار دولار من الأموال المهدورة خلال الجزء الثاني من ولاية رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي قاد الحكومة حتى سنة 2014، من بينها 250 مليار دولار سرقت ببساطة لأنها سُحبت من موازنات الدولة دون أَسْناد رسمية لصرفها.
وقال نائب سابق في البرلمان العراقي إنّ مثل هذه الأرقام تجعل من تسمية سرقة أموال الأمانات الضريبية على ضخامتها بسرقة القرن ضربا من التضليل للتغطية على سرقات أكبر كثيرا قام بها مسؤولون كبار ولم يجرؤ أحد على فتح ملفاتهم رغم أن الشارع كان في احتجاجاته يرفع لافتات بأسمائهم ويطالب بمحاسبتهم.
وحذّر ذات النائب من وجود توجّه نحو إلصاق تهمة سرقة القرن بأركان حكومة رئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي الذي لم يكن على وفاق مع الأحزاب والميليشيات الشيعية القائدة الرئيسية لتجربة الحكم القائمة في البلد والذي كان قد صعد أصلا إلى قيادة السلطة التنفيذية إثر الانتفاضة الشعبية التي تفجّرت سنة 2019 في وجه تلك القوى مُطالبة بإسقاط نظامها.
واستدرك المتحدّث الذي طلب عدم التصريح بهويته بالقول إنّه لا يقصد تبرئة الكاظمي وحكومته لكنّه يشكّك في عدم إمكانية تورّط جهات حاكمة حاليا في سرقة القرن.
العديد من الأوساط العراقية تستبعد أن يكون زهير قد تمكّن من مغادرة السجن والسفر خارج البلاد دون مساعدة من جهات نافذة في الحكومة
وسبق أن تم القبض على الجبوري حين كان يشغل منصب المستشار المالي لرئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي، على ذمّة التحقيق في قضية سرقة القرن لكن أطلق سراحه بعد أن أعادت زوجته جزءا من الأموال المسروقة إلى خزينة الدولة.
ووقف الإعلام وراء إعادة تسليط الضوء على القضية، من خلال بث إحدى الفضائيات مقابلة مع المتّهم الرئيسي لوّح فيها بتوريط مسؤولين كبار مطالبا بأن تكون محاكمته علنية.
وأصدرت محكمة جنايات مكافحة الفساد الثلاثاء أمرا بإلقاء القبض على زهير والجبوري، بينما أكد رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون أنّ المحاكمة ستشمل ثلاثين متهما آخرين.
وتطرّق قاضي محكمة تحقيق الكرخ المختصة بقضايا النزاهة ضياء جعفر إلى مسألة إطلاق سراح زهير قائلا إنّه تمّ بعد دفعه كفالة مالية “استنادا إلى ما ورد بقانون أصول المحاكمات الجزائية بعد أن أبدى استعداده لتسليم المبالغ المالية المترتبة بذمة شركاته وإجراء التسوية المالية البالغة أكثر من تريليون وستمئة مليار دينار خلال فترة زمنية محددة”.
ونفى القاضي في تصريحات صحفية صحة ما يتداول بأن إطلاق سراح المتهم في سرقة أموال الأمانات الضريبية كان لغرض السماح ببيع العقارات المحجوزة، مؤكّدا أنّ الحجز لن يرفع عن تلك العقارات إلى حين اكتمال التحقيقات.
سبق أن تم القبض على الجبوري حين كان يشغل منصب المستشار المالي لرئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي
كما أكّد أنّ “المتهم نور زهير سيحال على المحكمة المختصة لإجراء محاكمته أصوليا بعد تسديده كامل المبالغ التي بحوزته”.
وعزا قبول المحكمة بما عرضه المتهم من تسوية مالية إلى عدم وجود مانع قانوني يحول دون ذلك، إضافة الى أن استحصال المبالغ المالية المسروقة بعد صدور أحكام مكتسبة لدرجة البتات يستوجب إجراءات مطولة من دوائر التنفيذ لبيع العقارات عن طريق إجراء المزايدات الأمر الذي قد يستغرق مددا طويلة.
ولم يقنع كلام القاضي العديد من الجهات المتابعة لقضية سرقة القرن. وقال باسم خشان عضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي إنّ “زهير كان في يد القضاء العراقي، والآن أصبح بيد غير القضاء وخارج العراق”، مضيفا في تصريح لوكالة شفق نيوز الإخبارية أن “هذا يؤكد أن قرار إطلاقه بكفالة قرار غير صحيح بدليل أننا نحاول الآن القبض عليه من جديد”.
وبين أن “المتّهم هارب خارج البلاد ومكانه مجهول وأغلب أمواله في الأصل هي خارج العراق”، متوقّعا أنّ “عدم التكمّن من اعتقال نور زهير مجددا أمر وارد وقد لا نشهد محاكمته”.
وكان من المقرر أن يحضر زهير الثلاثاء إلى المحكمة الجنائية المركزية في بغداد لمحاكمته، إلاّ أنه لم يحضر وهو الأمر الذي لم يشكّل أي مفاجأة.
وأواخر الأسبوع الماضي تحدّثت وسائل إعلام لبنانية عن تعرّضه إلى حادث سير في بيروت، الأمر الذي أثار التكهنات بسيناريوهات متضاربة تحدّث بعضها عن حادث مفتعل من المتهم نفسه لعدم حضور المحاكمة، وتحدّث البعض الآخر عن محاولة تصفيته لدفن الأسرار التي لوّح بكشفها في المقابلة التلفزيونية.
ووصف عضو اللجنة المالية النيابية معين الكاظمي القيادي في تحالف الفتح الممثل السياسي لميليشيات الحشد الشعبي الحادث المروي الذي تعرّض له المتهم في سرقة القرن بأنّه مفبرك بهدف الهروب من المحاكمة. وطالب الحكومة بتفعيل اتصالاتها مع البوليس الدولي الأنتربول لاسترداد الأشخاص المتهمين في القضية.
وقال النائب علي نعمة من جهته إنّ ملف نور زهير يحمل علامات استفهام كثيرة وتجب الإجابة عليها وبيان ما هي الأسباب التي دفعت إلى تركه يسافر رغم أنه متهم في قضية خطرة؟
ووضعت التطورات الحادثة في قضية سرقة أموال الأمانات الضريبية الحكومة العراقية إزاء موقف دقيق وجعلتها عرضة لضغوط مضاعفة، قالت مصادر إنّها تسير في اتجاهين متقاطعين حيث تضغط دوائر سياسية وإعلامية باتجاه حسم القضية وإجلاء حقيقتها ومعاقبة المتورّطين فيها، بينما تضغط قوى أخرى باتّجاه إقفال الملف بأقصى سرعة ومنع تحوّله إلى فضيحة كبرى قد تكون حافزا لإعادة تحريك الشارع الذي أصبح حساسا على نحو استثنائي لقضايا الفساد المنعكسة على أوضاعه بشكل مباشر.