القضاء العراقي على موعد مع امتحان تاريخي لحسم أزمة رواتب كردستان

بغداد - يترقب إقليم كردستان العراق، على وقع أزمة مالية خانقة تُثقل كاهل موظفيه، قرارا مصيريا من المحكمة الاتحادية (أعلى سلطة قضائية في البلاد) ، قد يُنهي عقودا من الجدل حول ملف رواتب الإقليم.
ومع ترقب حاسم، يقع مصير مئات الآلاف من موظفي إقليم كردستان هذا الأسبوع بين يدي القضاء العراقي، فيما تأتي هذه اللحظة المفصلية في أعقاب قرار الحكومة الاتحادية بوقف تمويل الرواتب، مبررة ذلك بتجاوز الإقليم للحصة المحددة في الموازنة، في خطوة فجرت التوتر السياسي المتصاعد بين أربيل وبغداد إلى مستويات غير مسبوقة.
وفي تطور جديد، شدد رئيس المحكمة الاتحادية العليا، القاضي جاسم العميري، اليوم الأحد، خلال لقائه مع رئيس الجمهورية عبداللطيف جمال رشيد، على "ضرورة إيجاد حل لأزمة رواتب موظفي إقليم كردستان 'وفقا للقانون'".
ووفقا لبيان المكتب الإعلامي لرئيس الجمهورية، أكد رشيد "ضرورة تعزيز سيادة القانون واستقلال القضاء كونه الضامن لحل جميع الخلافات"، مشددًا على "ضرورة إيجاد حل نهائي لصرف المستحقات المالية لموظفي الإقليم، وحسم هذا الملف الإنساني وفقًا للدستور والقانون وقرارات المحكمة الاتحادية".
من جانبه، أكد القاضي العميري "ضرورة أن تجد أزمة رواتب موظفي الإقليم طريقها إلى الحل وفقًا للقانون"، مشددًا على أداء المحكمة الاتحادية لمهامها "بما يضمن مصالح وحقوق الشعب ويعزز الوحدة الوطنية".
وعلى ما يبدو، يراهن إقليم كردستان على قرار المحكمة الاتحادية، الذي يؤكد وجوب فصل مستحقات الموظفين في كردستان عن أزمة الخلافات المالية بين بغداد وأربيل، وضرورة دفعها شهريا بشرط التوطين، بغض النظر عن الخلافات المالية الأخرى.
ولا يقتصر الخلاف بين أربيل وبغداد حول قطع تمويل رواتب موظفي الإقليم على أبعاده الاقتصادية، بل يتخذ أبعادا سياسية معقدة، وسط خلافات متراكمة أبرزها ملف النفط والاتفاقيات الثنائية مع شركات أميركية.
وحذر القيادي البارز في الحزب الديمقراطي الكردستاني، هوشيار زيباري، في يونيو الجاري، من أن قرار الحكومة الاتحادية بإيقاف تمويل رواتب موظفي الإقليم "لن يمر دون 'عواقب سياسية'".
وقال زيباري في تدوينة له عبر منصة (أكس) إن "قرار حكومة السوداني الإطار التنسيقي بإيقاف تمويل رواتب موظفي اقليم كردستان، وفي توقيت سئ جدا، لمعاقبة جماعية وتجويع لمواطني الإقليم من خلال التشبث بحجج مالية وإدارية سوف لن يمر مرور الكرام وبدون عواقب، فنحن لا نعيش في مدينة فاضلة، وتاريخنا السياسي يؤشر بأن المعتدي سيعاقب".
وتسلمت المحكمة الاتحادية العليا، في 1 يونيو الجاري، دعوى قضائية من قبل عدد من موظفي إقليم كردستان، يطالبون فيها بإلزام وزارة المالية الاتحادية، إرسال رواتب موظفي كردستان، بناء على قرار المحكمة الاتحادية لعامي 2023 و2024، الذي نص على وجوب استمرار صرف رواتب موظفي الإقليم، بغض النظر عن المشاكل المالية الأخرى بين بغداد واربيل، وسط ترجيحات بصرف الرواتب الثلاثاء المقبل.
وجاء في تفاصيل الدعوى الموقعة من موظفي إقليم كردستان، أنه في هذا اليوم أقيمت دعوى من قبل موظفين من الإقليم بخصوص المطالبة باستمرار صرف الرواتب في إقليم كردستان، وفي مواعيدها المحددة، وفقا لقرار المحكمة الاتحادية بالعدد (224 وموحدتها 269/اتحادية/2023 في 21\2\2024).
وطالب المدعون، بإصدار أمر ولائي يُلزم وزارة المالية الاتحادية بصرف الرواتب، تنفيذا لقرار المحكمة المذكور، الذي يتضمن إلزام كل من رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الاتحادية، ورئيس مجلس الوزراء في حكومة إقليم كردستان – العراق، بتوطين رواتب منتسبي جميع الوزارات، والمحافظات والجهات غير المرتبطة بوزارة، وجميع منتسبي الجهات الحكومية الأخرى، والمتقاعدين، ومستفيدي شبكة الحماية الاجتماعية في الإقليم لدى المصارف الحكومية الاتحادية العاملة خارج الإقليم، مع خصم المبالغ من حصة الإقليم المحددة بموجب قانون الموازنة.
وقد سجلت الدعوى المذكورة لدى المحكمة الاتحادية بالعدد (104/ اتحادية/ 2025)، واستوفيت الرسوم القانونية عنها، وسوف يتم البت بطلب إصدار الأمر الولائي في أقرب وقت. بحسب مقيمي الشكوى.
وجاء تفجر الأزمة الأخيرة بعد أيام من توقيع حكومة إقليم كردستان اتفاقيتين نفطيتين مع شركتين أميركيتين لاستثمار حقلي ميران وتوبخانه – كردمير في محافظة السليمانية. هذا التطور قوبل برفض حاد من وزارة المالية الاتحادية التي دعت إلى الالتزام بالدستور الذي ينظم العلاقة النفطية بين بغداد وأربيل.
إثر ذلك، دخلت العلاقة بين حكومتي بغداد وأربيل منعطفا خطيرا بقرار وزيرة المالية طيف سامي وقف صرف رواتب موظفي إقليم كردستان، بسبب عدم حسم ملف عائدات النفط من حقول الإقليم المتوقفة منذ عامين، ما تسبب في ردود فعل غاضبة من الجانب الكردي، ووسط تلويح بإمكانية الانسحاب من العملية السياسية في بغداد.
وحذّر الحزب الديمقراطي الكردستاني القائد الرئيس لسلطات إقليم كردستان العراق بقيادة الزعيم المخضرم مسعود البارزاني في نهاية مايو الماضي من اللجوء إلى اتّخاذ موقف جدي من الحكومة الاتحادية العراقية التي قال إنّها تواصل "انتهاك الحقوق الدستورية لإقليم كردستان، في حال عدم إرسالها المستحقات المالية للإقليم قبل عيد الأضحى."
وجاء في بيان للمكتب السياسي للحزب "نحيط الرأي العام في العراق وإقليم كردستان علما بأن الحكومة الاتحادية تواصل انتهاك الحقوق الدستورية لإقليم كردستان، وآخر هذه الانتهاكات كتاب وزارة المالية والذي يخالف الدستور وأسس اتفاقية تشكيل الحكومة،" ويُعدّ “تسييسا لقوت الشعب.”
ويشار بالكتاب المذكور إلى المراسلة الرسمية التي أرسلتها وزيرة المالية العراقية طيف سامي إلى حكومة إقليم كردستان تُبلغها فيها بأن الوزارة يتعذّر عليها الاستمرار بتمويل إقليم كردستان لـ"تجاوزه حصته المقرّرة بقانون الموازنة الاتحادية."
وكانت وزيرة المالية العراقية قد وجّهت في 28 مايو الماضي كتابا رسميا إلى حكومة إقليم كردستان، تُبلغها بموجبه بأن الوزارة “يتعذّر عليها” الاستمرار بتمويل إقليم كردستان لـ"تجاوزه الحصة (12.67 في المئة) المقرّرة بقانون الموازنة الاتحادية، بمبلغ (13.547) تريليون دينار من إجمالي الصرف الفعلي."
وذكرت الوزيرة في كتابها حول تمويل شهر مايو، أن الإيرادات النفطية وغير النفطية لإقليم كردستان منذ عام 2023 وحتى أبريل من هذا العام بلغت 19.9 تريليون دينار، لكنه سلّم 598.5 مليار دينار إلى الحكومة الاتحادية.
واستنادا إلى قرار المحكمة الاتحادية (4 اتحادية/303/2025)، قالت طيف سامي إن الوزارة “يتعذّر عليها الاستمرار بتمويل الإقليم،” لما يشكّله ذلك من مخالفة لأحكام قانون الموازنة وقرار المحكمة، إضافة إلى “عدم قيام الإقليم بتوطين رواتب منتسبيه حتى الآن.”
تتجاوز أزمة رواتب إقليم كردستان كونها مجرد خلاف إداري أو مالي، لقد تحولت إلى أداة ابتزاز سياسي تستغلها بعض قوى الإطار التنسيقي في بغداد بهدف إضعاف الإقليم. وهذا الضغط المستمر، الذي ينم عن رغبة واضحة في تقويض استقرار كردستان الاقتصادي والسياسي، يُحدث شللا متزايدا في الأسواق ويُعمق المعاناة المعيشية للموظفين والمواطنين على حد سواء.
ويُعد تكرار هذه الأزمة سنويا، وربط الموازنة بشروط تعجيزية، نهجا متعمدا لتحويل رواتب الموظفين إلى "سلف" بدلا من استحقاق دستوري. وهذا الأسلوب يُبقي الإقليم في حالة تبعية مالية دائمة، ويُعيق قدرته على إدارة شؤونه الذاتية بفاعلية.
ولا تقتصر تداعيات هذه السياسة على تآكل القدرة الشرائية للمواطنين فحسب، بل تمتد لتهديد النسيج الاقتصادي والاجتماعي للإقليم برمته، وتضعف قدرته على إدارة شؤونه الذاتية، مما قد يدفع باتجاه مزيد من التوتر السياسي ويزيد من تعقيد العلاقة الهشة أصلا بين بغداد وأربيل.