القصة القصيرة.. وسيلة تربوية وثقافية للأطفال لكن بشروط

القصص تحدث التغيير عبر اللعب الرمزي لا عبر المواجهة الصريحة.
الثلاثاء 2025/05/27
هوية الطفل تبنى بالقراءة

لا شك أن القصص الموجهة للأطفال وسائل هامة وضرورية في بناء وعيهم وغرس القيم الإيجابية في نفوسهم، وتنشئتهم بشكل سليم على التفكير والأصالة والمبادئ الإنسانية، ولكن كل هذه الوظائف التي تضطلع بها قصص الأطفال والناشئين لها شروط لتتحقق، تبدأ من الكاتب وصولا إلى صناعة الكتاب، وهو ما تكشفه مختصات في الثقافة والتربية في سلطنة عمان. 

مصبح الحسني

مسقط - تشكّل القصص القصيرة التي تنسج أحداثها بطرق مدروسة مرتكزا مهما للطفل والناشئة في غرس جملة من القيم الإنسانية والأخلاقية في داخله، عبر عرضها بصورة ممتعة، من خلال استخدام بعض الصور التوضيحية، والتركيز على شخصية البطل لجذب الطفل.

ويمكن أن تقوم القصة القصيرة بدورها التربوي والثقافي إذا التزمت بمجموعة من الأسس والمرتكزات عند مراعاة الكاتب في قصصه السرد المنطقي للأحداث، عبر تسيير الأحداث بطريقة متسلسلة تجذب القارئ، ليكتسب مجموعة من القيم منها الرحمة والعطف والاحترام والعدل والصدق.

القوة التأثيرية

أمل المغيزوية: على الكاتب أن يدرك بأنه يتعامل حاليا مع جيل مختلف
أمل المغيزوية: على الكاتب أن يدرك بأنه يتعامل حاليا مع جيل مختلف

وتقول أخصائية الأنظمة المدرسية بوزارة التربية والتعليم العمانية الدكتورة أمل بنت سالم المغيزوية إنّ “القصة الصغيرة أسهمت بدور كبير في تعزيز الكثير من القيم الإنسانية المتباينة عبر العصور وتتابع الأجيال وتقوية وترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية والإنسانية التي تدفع الطفل لاكتشاف مفهوم القيمة والبحث عن دورها في الحياة والتركيز على أهميتها في حياته.”

وأضافت أنّ “القصة الصغيرة التي تكتب بطريقة إبداعية وبشكل إيجابي يمكن أن تؤثر في الأطفال والناشئة، حيث يجد فيها القارئ ملاذا آمنا وتعلمه القيم الفاضلة في التعامل وتُعزز القيم وأهميتها داخل الإنسان، فيتقمص تلقائيا تلك الخصال في تعامله مع الجميع.”

وتوضّح أنّ الكثير من القصص تعمل على صقل شخصية الطفل وتسهم في بناء الكثير من جوانب شخصيته عبر القراءة والاطلاع، فيصبح قادرا على المناقشة والحوار، ويُعبّر عن وجهة نظره بطريقة إيجابية دون خوف أو وجل، مشيرة إلى أنّ الكثير من القصص تناولت التركيز على قيم الانتماء إلى الوطن وإلى الأسرة إلى جانب مفهوم تشكيل الهوية الفردية لدى الأطفال والناشئة، لتعمق من شعورهم بالانتماء إلى وطنهم وتدفعهم إلى الذود عنه، وترسخ في داخلهم الإحساس بالفخر لمنجزاته والعمل بشتى الطرق لرفعته.

وتلفت إلى أنه ينبغي للكاتب أن يدرك بأنه يتعامل حاليا مع جيل تقني يختلف عن الأجيال السابقة، بحيث يراعي تغيرات العصر، ويسعى لغرس القيم من خلال الكتابة بشكل أكثر جاذبية، ليصبح قادرا على تحقيق هدفه في غرس القيم التربوية بطريقة فاعلة.

وفي السياق ذاته تقول الأكاديمية المتخصّصة في ثقافة الطفل الدكتورة وفاء بنت سالم الشامسية إنّ “القصة القصيرة يمكن أن تقوم بدور محوري في تعزيز القيم الإنسانية لدى الأطفال والناشئة، كونها أداة سردية قادرة على تجاوز الحواجز الزمنية والثقافية واللغوية، والوصول إلى الطفل في لحظاته الخاصة من التأمل والتلقّي. ففي عمر الطفولة، تكون القيم في طور التشكّل، والخيال يعمل مثل نافذة لتفسير العالم وهنا تأتي القصة القصيرة لتكون ‘الوسيط الحي’ بين الفكرة المجردة والتجربة المعيشة.”

وفاء الشامسية: القصص وسيط حي بين الفكرة المجردة والتجربة المعيشة
وفاء الشامسية: القصص وسيط حي بين الفكرة المجردة والتجربة المعيشة

وتضيف أنّ القصة القصيرة لا تقدم القيم باعتبارها خطابا، بل تعيشها وتُمسرحها داخل النص، فالطفل لا يسمع عن “العدالة” بوصفها قيمة، بل يراها تتحقّق من خلال بطل يتعرّض للظلم ثم يستعيد حقه، أو يرى أثر التعاطف حينما يعتني أحدهم بصديق ضعيف. وبهذه الطريقة، تصبح القيم كائنات حيّة يتفاعل معها الطفل لا شعارات تُلقن له.

وتبين الشامسية أنّ القصة يمكن أن تصبح وسيلة تربوية ثقافية قادرة على نقل القيم من جيل إلى جيل في سياق طبيعي غير قسري، عبر سردية واحدة تحمل القيم الجوهرية للإنسانية: الرحمة، والصدق، والإيثار، والشجاعة، والتسامح، وأنّ الوعي القيمي لا يتكوّن فقط بالمعرفة، بل بالتجربة، والتقمّص، والربط الشعوري.

وتذكر أنّ القصة القصيرة تقدم للطفل مساحة آمنة ليمارس هذا “التجريب القيمي” في بيئة خيالية. حين يواجه البطل أزمة أخلاقية، ويتخذ قرارا فيه تضحية من أجل الآخر، ويتابع الطفل التفاصيل ويعيشها بانفعاله، مما يجعل القيمة ترتبط لديه لا بمفهومها اللفظي، بل بنتائجها الحقيقية مثل العدل يريح القلب، والخيانة تؤلم، والشجاعة تُنقذ، مما يجعل هذه الخبرات المصغّرة التي يعيشها الطفل داخل القصة، تتراكم مع الوقت، وتشكّل ما يمكن أن نسمّيه “الوجدان الأخلاقي”، وهو نمط تلقائي من الاستجابة القيمية للمواقف الواقعية في الحياة، لتُحدث التحوّل من الخارج إلى الداخل، ومن التقليد إلى القناعة، ومن الإملاء إلى الاكتشاف.

وتشير إلى أنّ القصة القصيرة تمثل القوة التأثيرية في كونها تُحدث التغيير عبر “اللعب الرمزي”، لا عبر المواجهة الصريحة، وهذا التأثير الإيجابي يظهر في ثلاثة أبعاد رئيسة وهي البُعد السلوكي إذ تُسهم القصة في تعديل السلوك اليومي للطفل عبر نماذج يُحبها ويثق بها (شخصيات القصة). وذكرت أنّ البُعد الوجداني للقصص يجعل الطفل يتعاطف، ويحزن، ويفرح، ويقلق مع الشخصيات، ما يطوّر قدرته على فهم مشاعر الآخرين، وهو ما يُعرف بالذّكاء العاطفي، وهو شرط أساسي لاكتساب القيم الإنسانية.

أما البعُد الثالث المجتمعي فيتمثل، برأيها، في تنشئة الطفل على قيم التشارك والتفاعل الإيجابي، فتنقله القصص القصيرة من مركزية الذات إلى الوعي بالآخرين، وهي خطوة بالغة الأهمية في تشكيل إنسان مسؤول اجتماعيّا.

دور الكاتب

بدرية البدرية: القصة عبارة عن رسالة غير مباشرة يرسلها الكاتب للطفل
بدرية البدرية: القصة عبارة عن رسالة غير مباشرة يرسلها الكاتب للطفل

تشير الشامسية إلى أنّ الهُوية لدى الطفل تُبنى من خلال التعرّف إلى الذات أولا، ثم إلى المجتمع، ثم إلى الرموز الثقافية الكبرى، فالقصة القصيرة حين تُكتب بوعي ثقافي ووطني تؤدي دورا تأسيسيا في هذا المسار من خلال ترسيخ الانتماء الثقافي. وعندما يقرأ الطفل قصة تجري أحداثها في بيئته، وتظهر فيها مفرداته اليومية، يُعزز ذلك فخره بهُويته الثقافية ويقلّل من اغترابه أمام صور نمطية دخيلة عليه.

وتذكر أنّ القصة تسهم في دعم الهوية الفردية للطفل، من خلال مساعدته على إدراك أن له دورا في العالم، وأن لرأيه وصوته قيمة، وأنه يمتلك القدرة على إحداث التغيير. كما تعمل القصة على تفعيل الانتماء القيمي عبر منظومة أخلاقية يشترك فيها مع بقية البشر، تقوم على قيم الحب والصداقة والأمان والأمل، وتجمع القصة بين الترفيه والتربية والمعرفة في آنٍ واحد، وهذا ما يجعلها أداة ذهبية في يد المربي والمثقف.

وتشير إلى أنّ القصة تقوم بدور تربوي عبر تقديم مواقف حياتيّة مُبسّطة تحمل بذورا عميقة للتوجيه السلوكي، دون أن يشعر الطفل بأنه تحت رقابة أو ضغط، مثل الاعتذار، واحترام الكبير، وضبط النفس.

كما تؤدي القصة دورا ثقافيا تُعرّف من خلاله الطفل بمفردات لغوية، وعادات، وتراث، وأمثال، وفنون شعبية، مما يوسّع أفقه المعرفي ويجعله ينتمي إلى ثقافة حية قابلة للتجديد، كما تمنحه نافذة على ثقافات الآخرين، فيتشكّل لديه “الاحترام المتبادل” بدلا من “الرفض أو الانبهار”.

وتوضّح الأكاديمية المتخصّصة في ثقافة الطفل أن القصة عند دمجها بين الخيال والعلم، أو بين الفلكلور والأسئلة الفلسفية، تصبح أداة شاملة في تكوين عقلية الطفل المتفتحة، وتتحوّل من مجرد نشاط قرائي إلى “تجربة تربوية ثقافية مكتملة”.

من جانبها ترى الشاعرة بدرية بنت محمد البدرية أنّ القصة عبارة عن رسالة غير مباشرة يرسلها الكاتب للطفل، تضعه أمام تحد أو مشكلة، ثم يجعله يكتشف الحل الذي لا يكون إلا بقيمة إنسانية يحاول الكاتب غرسها في النشء.

وتضيف أنّ الإنسان يُقاس عموما بحصاد تجربته وما عاشه ونشأ عليه منذ طفولته، مشيرة من خلال تجربتها القصصية الموجهة للطفل إلى أن هذه القصص تعمل على غرس قيم الحب والسلام والوحدة والعلم والمعرفة، وذلك من خلال إيصالها بشكل غير مباشر عبر عناصر القصة سواء الإيجابية منها والسلبية.

وتُؤكّد على دور الكاتب في إيصال الرسالة والقيمة التي يرغب في غرسها لدى الأطفال من خلال قصته، مع ضرورة تحديد أهدافه بوضوح. كما تُشير إلى أنه لا حدود للأدوار التي يمكن أن يؤديها الطفل، إذ خُلق ليكون قادرًا على التأقلم مع مختلف الظروف، وعلى الكاتب أن يوجّهه لاختيار طريقه بما يتوافق مع مؤهلاته وهواياته.

12