القراءة وطن

الاثنين 2016/05/09

تدخلني القراءة عوالم ساحرة، وتطيرني فوق السحاب في سماوات مفتوحة بألوان الطيف، أتذوق معها طعم الخدر من شفاه الكلمات يسكرني، يأسرني، أتماهى مع الفكرة حد التوحد، وأصب قوارير العطر على أحرفي فتزهو بتأنق فريد، حالي ككل عشاق الكتب والكلمات، أقرأ لأنتشي.

ولكنني أقرأ كل كتاب مرتين على الأقل، في الأولى أبحث عن المفاجأة في زوايا كتبي، كالقطة الجائعة أفتش عن طعامي الأثير بين كلمات الكتب، وتفاصيل الروايات، تسكرني مفاجآت الأحداث، تأخذني إلى عالم مخملي، وستائر من حرير تلفني.

وفي الثانية أبحث في حنايا الكلمات عن بعض من روحي فربما نسيت قطرات من دموعي سقطت سهوا مع تنهيدة حائرة أطلقتها على بطلة صرعها العشق أو زفرة حارقة انطلقت لتهوي نحو المجهول.

في زوايا الكتب بعض منا وكل من كاتبها، أتكئ حينا على الأحرف وحين يؤذيها ثقل وزني ويترك بليونتها علامات وجع تلكزني أفيق فأسندها إلى صدري.. أحتضن الكلمات.. أستنشق عطرها الأخاذ.

للكتب رائحة تفوق سحر العطور الفرنسية تداعب أنفي لتوقظني ليلا بفعل “نداهة القراءة” فأستسلم لغواية الكلمات وروعتها راضية أسير خلف النداهة مغمضة العينين مشدوهة بسحرها وروعتها تقودني لمصائر عدة ونهايات مفتوحة للخيال، لا تغلق بابها على نهاية واحدة تسجننا داخل فكرة محددة مقولبة فرضها المؤلف وأغلق باب الخيال على نفسه ليخرج لنا بنهاية ما، يراها صادقة معبرة وما دونها هراء، نهاية مفادها أنه وحده من يرى الحلم ويملك تفسير الرؤى. ولكنها تعطينا الفرصة أحيانا لنشارك كاتبها مقصده فنضع نهاية جائزة، أو نهاية مستحيلة، نهاية تحمل عمق التفكير أو أخرى لا يحركها سوى تفاعل اللحظة.

تستهويني الكتب والجرائد الصفراء (ليست صفراء الإثارة وتلويث السمعة وتجريح الأبرياء)، ولكن صفراء اللون تلك التي تحمل صفحاتها عمرا بطول السنين وعرضها، ولونا ببريق النشوة أعشقه صنعته السنون وهي تترك بصمتها على كتب مات أصحابها وورثوا ثرواتهم لأجيال كاملة، تركة تقسمت على المشاع لتمتع الكثيرين.

أسافر إلى بلاد الحداثة والتكنولوجيا، أتجول بحضارتها ومطاراتها، أستنشق هواءها وأغوص في ثقافتها المنثورة بين دفات الكتب، أدخل أرقى المتاحف العالمية وأشتبك مع حضارات وثقافات ومسؤولين ومتاحف إزدانت بقطع من تاريخ بلادي، أوأقوم برحلة مكوكية لبلاد العجائب أمتطي ظهر فيل ضخم وفي المساء أصافح أنجيلينا جولي على ضوء الشموع.

أدهشتني دراسة تمنيتها كاذبة تقول إن المواطن الأوروبي يقرأ 35 كتابا بالعام، بينما 80 عربيا يقرأون كتابا واحدا.

عدة مطارات وطأتها قدماي للمرة الأولى وقد مهد الخيال للزيارة قبلها بأعوام فوجدتني بين بشر أعرفهم جيدا وملامح آلفتها كثيرا، عادات وتقاليد مأكولات تذوقتها على صفحات الكتب، يقولون المطبخ يحمل ثقافة شعب، وأقول والكتب تنقل تلك الثقافة وتضعها على أطراف ألسنتنا لنتذوقها بالعقل والقلب والخيال.

هذا ما تفعله بنا القراءة وما تمنحه إيانا الكتب، تعطينا الكثير حتى تصبح القراءة بذاتها وطنا، أرضا تتشكل كما نراها، كما نريدها ونرغب فيها، تمنحنا حيوات عدة وتدخلنا في معارك شريفة، وأخرى ليست بريئة من الهوى والأغراض، حتى أنني لم أعد أشعر بألم الحب وتحرقه من طرف واحد حين أقرأ بل أصبحت بعض كتبي تبادلني نفس الشعور، تتخايل وتتبختر أمامي تشجعني على الدخول في عالم السحر الجميل.

والجدير بالذكر والتقدير أن دولة الإمارات العربية المتحدة تعد من أكبر الدول من حيث عدد الأنشطة الثقافية والتفاعلات الأدبية المقامة على أرضها انعكاسا لعمقها الحضاري.

كاتبة من مصر

21