القاهرة تفند الانحياز للجيش السوداني بمغازلة القوى السياسية

تسعى القاهرة التي تربطها علاقات متينة مع الجيش السوداني لتفادي الانتقادات التي تطالها بالانحياز لأحد طرفي الأزمة السودانية عبر إرسال وفد (شبه حكومي) لإجراء حوارات مع قوى حزبية ومدنية. ويتوقع مراقبون أن تتقدم القاهرة بناء على نتائج الحوارات بخارطة طريق لحل الأزمة السياسية قد يرضى بها المكون العسكري القريب منها.
القاهرة - بدأ وفد مصري شعبي زيارة للخرطوم، وشرع في عقد سلسلة من اللقاءات مع عدد من ممثلي القوى المدنية في السودان التي يقف بعضها موقفا سلبيا من المكون العسكري الذي يتحكم في مفاصل السلطة الحالية، في محاولة تريد منها القاهرة إرسال إشارات إيجابية ودحض اتهامات بانحيازها للجيش ودعمها استمراره في الحكم.
وحرصت وسائل إعلام محلية على إبراز زيارة الوفد المصري الشعبي الذي وصفته بأنه يمثل المجتمع المدني لتسهيل مهمته في توطيد العلاقات مع القوى النشطة في السودان التي يرى بعضها أن الحكومة المصرية لم تجر معهم ما يكفي من الحوارات بما يؤدي لتفاهمات مشتركة تسهم في حل الأزمة السياسية التي تعصف بالسودان.
وكشفت لقاءات الوفد الذي يرأسه وزير الخارجية المصري الأسبق محمد العرابي عن درجة عالية من الود بين الشعبين، تمثلت مظاهره في ارتداء البعض من أعضاء الوفد الزي السوداني التقليدي كدليل على التلاحم والتقارب ونفي ما يتردد علانية أو همسا من حساسيات تهيمن على العلاقات بين البلدين.
وتأخذ قوى مدنية عديدة على القاهرة أنها تحصر علاقاتها بالسودان في المكون العسكري، ولا تزال تتعامل مع بلدهم على أنه “مشكلة أمنية” ولا تحرص بما يكفي على تغليب الشق السياسي مقارنة بنظيره الأمني، على الرغم من رحيل نظام الرئيس السابق عمر البشير الذي مثلت سياساته المؤيدة لقوى إسلامية معضلة لمصر.
من غير المستبعد أن تكون القاهرة بصدد الترتيب لطرح مبادرة لحل الأزمة السودانية في الفترة المقبلة
وأدى احتضان نظام البشير جماعات متطرفة واستقباله لقيادات من تنظيم الإخوان الموضوع على قوائم الإرهاب بمصر إلى زيادة حدة الأزمات بين النظام الحاكم في البلدين، وكانت القوى المدنية السودانية تعتقد أن المشكلة انتهت بسقوط البشير، لكنها فوجئت بأن النظام المصري لم يغير موقفه كثيرا من بلدها.
وقالت مصادر مصرية لـ”العرب” إن ارتياح القاهرة لسقوط نظام البشير لم يغير من المعادلة الأمنية التي تتعامل بها مع الخرطوم، لأن السلطة الانتقالية التي يتحكم في مفاصلها الجيش لم تتخذ إجراءات كافية بشأن الملف الأمني الذي يؤرق الحكومة المصرية، ما جعلها تبدو متعاونة أكثر مع المكون العسكري للتوصل إلى حلول مشتركة تحول دون عودة السودان إلى قبضة الإخوان.
وأضافت المصادر ذاتها أن أزمة سد النهضة الإثيوبية وتداعياتها الإقليمية فرضت على القاهرة تمديد خيوط التعاون في مجالات مختلفة مع الجيش السوداني وتوطيد العلاقات معه لتنسيق المواقف بشأن مشروع السد الذي يضر تشييده بمصالح البلدين، وإجراء تدريبات عسكرية مشتركة تعزز العلاقة مع الخرطوم.
واستبعدت المصادر أن يكون التعاون وأشكاله المتباينة كان المقصود منه الانحياز للمؤسسة العسكرية وتكريس دورها في الحياة المدنية، وأرجعته إلى أن القيادة المصرية استشعرت تفتت القوى المدنية وعدم قدرتها على صياغة مواقف سياسية متماسكة في مرحلة حرجة يمر بها السودان والمنطقة، ففضلت عدم التخلي عن مساندة الجيش، لأن انهياره سيكون كارثيا على السودان ومصر.
وجددت التقديرات المصرية في التعامل مع الأزمة السودانية من واقع أبعاد أمنية فقط رؤى سلبية لدى شريحة من الأحزاب والقوى المدنية الداعمة للثورة، ودفعت بعضها للتوجس في التعاطي مع القاهرة التي زادت وتيرة التعاون الأمني مع الخرطوم.
وكانت زيارات وزير الدفاع المصري ورئيس جهاز المخابرات العامة للسودان، والعكس، من الأخبار الرئيسية في وسائل الإعلام في البلدين أكثر من الأخبار التي تتعلق باستقبال مسؤولين سياسيين، الأمر الذي ولّد إحساسا بأن الشق المدني غائب وربما غير مطروح على الأجندة المصرية في هذه المرحلة.
ولم تحل زيارات الوفود الأمنية دون استقبال قادة أحزاب وشخصيات مدنية في القاهرة بصور غير رسمية بحكم العلاقات الممتدة بين الشعبين والجذور الاجتماعية المتشابكة، وظل الاستقبال الرسمي للقوى السياسية السودانية محدودا وفاترا مقارنة بنظيره الأمني والعسكري.
وبسبب سياسة اللاتوازن والشكوك التي تحملها بعض الأحزاب السودانية غابت القاهرة عن المشاركة في الحوارات المتعلقة بتفكيك الأزمة في الخرطوم، وأخفقت زيارة قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري منذ نحو شهرين للسودان وأجرى خلالها لقاءات مع قوى مدنية في إقناعها بإمكانية أن تلعب القاهرة دورا في حلحلة الأزمة، وبدا أن المسألة بحاجة لإعادة هيكلة منظومة العلاقات المدنية من مصر نحو السودان.
ويمكن تفسير زيارة الوفد المصري الذي يرأسه السفير محمد العرابي ومعه عدد من السياسيين ونشطاء في مجال حقوق الإنسان وكتاب وصحافيين في سياق محاولة القاهرة ضبط العلاقات مع الخرطوم والتحلل نسبيا من حصرها في الشق الأمني الذي يغضب قوى مدنية تلعب دورا مهما في هندسة الخارطة السياسية في السودان.
وتشير الحفاوة التي استقبل بها الوفد المصري خلال اللقاءات التي عقدها مع قوة عديدة تمثل تيارات مختلفة أن العقدة السودانية يمكن حلحلتها بقليل من الانفتاح المدني والاستفادة من علاقات متراكمة بين النخب السياسية والثقافية والإعلامية في البلدين.
ارتياح القاهرة لسقوط نظام البشير لم يغير من المعادلة الأمنية التي تتعامل بها مع الخرطوم
ويعكس اهتمام وسائل الإعلام السودانية بزيارة الوفد المصري تقديرا لهذا النوع من الزيارات الذي غاب طوال السنوات الماضية، بما ترك المجال لانتشار تكهنات سلبية حول الضوابط التي تحكم العلاقة بين القاهرة والخرطوم وغلبة الشق الأمني عليها.
ويقول مراقبون إن زيارة وفد مدني مصري (شبه رسمي) بعد انقطاع تؤكد أن القاهرة استشعرت خطورة الاعتماد على البعد الأمني في إدارة علاقاتها مع الخرطوم، وأن زيارة الوفد مقدمة لتغير مقبل في شكل العلاقات مع القوى المدنية.
ويشير هذا الاتجاه إلى عدم اقتصار العلاقات على المكون العسكري الذي طغى مؤخرا، وهو أيضا اعتراف بأهمية تنوع الأدوات التي تدار بها العلاقات، ودليل على زيادة الانفتاح على الجميع، خاصة أن دور القوى المدنية لن يخفت وهناك إصرار من قبل المجتمع الدولي على عودة السودان للمسار الديمقراطي.
ومن غير المستبعد أن تكون القاهرة ترتب لطرح مبادرة لحل الأزمة السودانية الفترة المقبلة وأرسلت وفد القوى المدنية بشكل غير رسمي لجس نبض نظيرتها السودانية، مستفيدة من العلاقة الجيدة التي تربطها بالسلطة التي يهيمن عليها الجيش حاليا.
ويؤكد المراقبون أن النتيجة التي يصل لها الوفد المصري ستكون مهمة في تحديد مسار العلاقة بين القاهرة والقوى المدنية السودانية التي لا تمانع في المطلق الدور المصري، طالما أنه سيتخذ من الخطوات ما يبرهن على عدم انحيازه للمكون العسكري واستعداده للقيام بدور يُعلي من قيمة القوى المدنية في الحياة السودانية.