القانون لا يكفي لوقف التمييز ضد السود

التواطؤ المجتمعي ضد أصحاب البشرة السوداء في تونس يحولهم إلى "أنصاف مواطنين".
السبت 2020/01/04
"مقبرة العبيد".. مقبرة للسود حصرا

ما زال مئات الآلاف من السود في تونس، يخوضون معارك يومية ضد العنصرية رغم “القوانين الثورية” التي تحميهم. عنصرية تلاحقهم. تختبئ في النكات كما تعشش في العقليات. تؤذي وتجرح وتذل.

 تونس – تقول سمية إنها كانت تقطن “حي الوصفان” في قريتها عندما كانت صغيرة. لم تدرك تلك الفتاة الصغيرة صاحبة البشرة السوداء حينها، معنى الكلمة. وتضيف “تزوجت رجلا أبيض وغادرت الحي والقرية إلى غير رجعة”.

سألت خديجة حين كانت تبلغ من العمر ست سنوات أمها عن السر في أن حيهم يسكنه أصحاب البشرة السوداء فقط رغم أن مدرستها تضم أصدقاء لها بيض البشرة. لم تقنع أي من الإجابات خديجة. تغير الأمر الآن قليلا، بات حي الوصفان “ملونا” أكثر، وفق قولها، لكنه حافظ على اسمه رغم ذلك.

والوصفان جمع “وصيف” وتعني بالعربية “الخادمُ، غلامًا كان أَو جارية” لكنها في تونس تطلق على أولئك من أصحاب البشرة السوداء وهي كلمة موغلة في العنصرية مستمدة من تاريخ العبودية. وفي الألفاظ المستعملة في نعت السود في تونس أيضا “كحلوش” (أسود). وحتى بعد الاستقلال، لم يتغير الوضع إذ تواصل تحميل أصحاب البشرة السوداء ألقاباً تشير إلى أصولهم كـ”عبيد” مثل “عتيق” (العبد الذي تم عتقه) و“زيتون” (في إشارة إلى لون الزيتون الأسود) و”شوشان” وغيرها.

لا يقف التمييز عند الأحياء فقط، إذ تُوجد مقابر خاصة بالسود في منطقة سدريان بضواحي حومة السوق، قلب جزيرة جربة التونسية، تقع في أرض مهملة تسمى “مقبرة العبيد” حيث يواصل سكان المنطقة دفن موتاهم، بينما يستأثر “الأحرار” (ذوو البشرة الفاتحة) بمقبرتين أخريين في مكانين آخرين.

كما أن هناك فصلاً عنصرياً في الباصات في منطقة “القصبة” من معتمدية “سيدي مخلوف” التابعة لمحافظة مدنين في الجنوب التونسي، حيث يوجد باص مخصص للتلاميذ البيض وآخر مخصص للتلاميذ السود، الذين يلتحقون جميعاً بالمدرسة ذاتها.

عنصريون بامتياز

الميز العنصري  لا يقتصر على أصحاب البشرة السوداء الأجانب فقط بل هو مسلط أيضا على التونسيين
الميز العنصري لا يقتصر على أصحاب البشرة السوداء الأجانب فقط بل هو مسلط أيضا على التونسيين

قد يبدو طرح قضية التمييز العنصري على أساس اللون في تونس مفتعلًا للوهلة الأولى، لكن الوقائع تثبت عكس ذلك؛ يشكل التونسيون السود -وبينهم من يتحدر من أشخاص كانوا مستعبدين- أقلية غير بارزة في الحياة العامة التونسية. وتؤكد إحصائيات غير رسمية أن عددهم يتراوح بين 10 و15 بالمئة من مجموع السكان.

ورغم أن تونس كانت تاريخيًا، متقدمة في إلغاء الرق وعتق العبيد الذي تم إقراره من قبل أحمد باشا باي، عاشر البايات الحسينيين، سنة 1846، أي قبل فرنسا التي ألغته نهائيًا سنة 1848 وقبل الولايات المتحدة الأميركية أين تطلّب إلغاؤه حربًا أهلية، فقد بقيت رواسب الميز العنصري متجذرة في الذاكرة الجمعية التونسية رغم التطور التشريعي “ظاهريا”.

والأسبوع الماضي كشفت دراسة أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن 61 بالمئة من المهاجرين القادمين من الدول الأفريقية جنوب الصحراء، يعتبرون التونسيين عنصريين.

وأبرزت الدراسة -وهي عبارة عن استبيان شمل عينة عشوائية تتكون من 962 مهاجرا ومهاجرة من دول أفريقيا جنوب الصحراء- أن 51.1 بالمئة من المستجوبين قالوا إنهم تعرضوا لممارسات عنصرية وكراهية من قبل التونسيين. وتتمثل الممارسات العنصرية وفق المستجوبين في العنف بأنواعه والتحيل والابتزاز.

كما أشارت الدراسة إلى تعرض المهاجرين للعنف المؤسساتي الذي تقوم به مؤسسات الدولة، من ذلك مراكز الأمن ومكاتب الاستقبال، فضلا عن المؤسسات الخاصة ورؤساء العمل والموظفين.

وحدّدت الدراسة الأماكن التي تتم فيها الممارسات العنصرية ضد المهاجرين، إذ تكثر هذه الممارسات خاصة في الأماكن العامة ولاسيما الشارع بنسبة 92.8 بالمئة وبدرجة أقل الفضاءات التجارية بنسبة 25 بالمئة.

وأضافت أن أماكن الترفيه يتعرض فيها المهاجرون للممارسات العنصرية بنسبة 18 بالمئة والمستشفيات بنسبة 6.5 بالمئة والجامعات بنسبة 5.5 بالمئة ومقرات المنظمات الدولية بنسبة 3.3 بالمئة وفي المرتبة الأخيرة عيادات الأطباء الخاصة بنسبة 1 بالمئة.

يذكر أن الدراسة جاءت تحت عنوان “من دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس: دراسة كمية لوضعية المهاجرين في تونس، الملامح العامة المسارات والتطلعات”، وامتدت فترة إعدادها من شهر يونيو 2019 إلى النصف الأول من شهر سبتمبر 2019، وشملت محافظات إقليم تونس الكبرى ومحافظتي صفاقس ومدنين (جنوب) وسوسة (وسط).

الطلبة الأفارقة يعانون من اعتداءات متكررة ومن ثقافة الإفلات من العقاب، إذ لا تتم متابعة الشكاوى التي يتقدمون بها

وأوضحت الأستاذة الجامعية والمشرفة على إعداد الدراسة فاتن المساكني أن استقرار العمال الأجانب في تونس لا يزال رهينة قوانين تعود إلى مرحلة الستينات فضلا عن كون نشاطهم المهني هو بالأساس غير مهيكل وهش وقد يقترن بأشكال متعددة من الاستغلال وانتهاك المعايير الأخلاقية المتعارف عليها في العمل.

يعاني الطلبة الأفارقة في تونس من الاعتداءات المتكررة ومن ثقافة الإفلات من العقاب، إذ لا تتم متابعة الشكاوى التي يتقدمون بها إلى مراكز الشرطة.

واعتبر ماك أرتور يوباشو -وهو رئيس جمعية الطلبة والمتربصين الأفارقة في تونس- أنه “بين عامي 2008 و2010، كنا 13 ألف طالب، لكن نحن اليوم نحو 6 آلاف فقط، الفارق شاسع جدا، فمن المؤكد أن قضايا العنصرية وراء هذا التراجع بالعدد في السنوات الأخيرة لأن ذلك يعطي صورة سلبية عن تونس”.

ولا يقتصر الميز العنصري على أصحاب البشرة السوداء الأجانب فقط بل هو مسلط أيضا على التونسيين من أصحاب البشرة السوداء.

ويتعرض أصحاب البشرة السوداء بشكل متواصل للإهانات والتشويه، سواء مباشرةً أو في صفحات التواصل الاجتماعي وحتى في صفحات الجرائد. كانت نقيبة الصحافيين الراحلة في تونس، نجيبة الحمروني تعرضت لحملة تشويه ممنهجة من قبل صفحات الفيسبوك القريبة من حركة النهضة الإخوانية بسبب تصديها لمحاولات حكومة الترويكا (2011 – 2013) وضع اليد على قطاع الإعلام، وكان ذلك عبر السخرية من لون بشرتها. الشيء ذاته قامت به بعض الصحف الصفراء التي نشرت صوراً مشوهة لها ونعتتها بـ”الكحلوشة”.

وشهد العامان الماضيان حوادث عنصرية شغلت الرأي العام إذ تعرضت مضيفة الطيران غفران بينوس التي تعمل في شركة الخطوط التونسية، لاعتداء بالعنف اللفظي وسلوك عنصريّ من طرف مسافرة تونسية على متن رحلة من إسطنبول إلى تونس، وذلك بسبب لون بشرتها، ليتدخّل قائد الطائرة ويقوم بإنزال المسافرة من الطائرة وسط تضامن بقية المسافرين.

وكانت النائبة في البرلمان التونسي جميلة دبش كسيكسي، تعرضت لحملة عنصرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب لون بشرتها.

وقال الفنان التونسي صلاح مصباح في ديسمبر 2019 إنه أشبع سبا وشتما وعبارات عنصرية بعد أن عبر عن مساندته للنائبة جميلة الكسيكسي إثر الهجوم العنصري الذي تعرضت له من أحد قياديي الحزب الدستوري الحر.

وقالت جميلة دبش كسيكسي “لن نستطيع محو عار العنصرية إلا بالاعتراف والشجاعة في التصدي ومطاردة الأفكار والممارسات العنصرية أين ما وجدت وأن نبحث عنها في دواخلنا… نحن في حاحة إلى شن حرب حقيقية على التمييز بكل أشكاله وأن ننتصر لكرامة وحرمة الذات البشرية. لا خير في بلاد يحس فيها صنف من

البشر أنهم أنصاف مواطنين أو شبه مواطنين… أدنى الحقوق أن تشعر أنك بشر ككل الناس وأنك لا أعلى ولا أدنى من أي أحد”.

وفي يونيو عام 2018 لم تحظ فقط الأعمال الدرامية أو الكوميدية باهتمام التونسيين وتعليقاتهم في أول أيام شهر رمضان، إذ كان للنشرة الجوية في القناة الوطنية نصيب، والسبب هو ظهور مقدّم للنشرة أسود البشرة وذلك في سابقة في تاريخ التلفزيون التونسي.

قوانين لا تردع

عنصرية مستمرة عبر أجيال عديدة
عنصرية مستمرة عبر أجيال عديدة

صادق البرلمان التونسي يوم 09 أكتوبر 2018 على قانون يهدف إلى القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، لتكون بذلك تونس الدولة الأولى في العالم العربي التي تسن قانونا مماثلا. وقد لاقى هذا القرار ترحيبا من المجتمع المدني الذي دعا إلى العمل على تغيير العقليات والأفكار السائدة في المجتمع بالتوازي مع ذلك.

ويقصد بالتمييز العنصري وفق هذا القانون الذي يحمل رقم 11 / 2018 “كل تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو الأصل القومي أو النسب أو غيره من أشكال التمييز العنصري”.

ومنذ الثورة طالبت عدة مؤسسات من المجتمع المدني، من أبرزها جمعية “منامتي” التي تترأسها الناشطة في مجال مناهضة العنصرية سعدية مصباح، بإقرار قانون يجرّم العنصرية في تونس.

ووصف النائب السابق في البرلمان التونسي رؤوف الماي القانون بأنه “ثمرة عمل المجتمع المدني”.

وأشار الماي إلى “أن تونس كانت أول بلد مسلم يلغي العبودية في عام 1846 خلال حكم البايات، وكانت أيضا من بين الأوائل الذين وقعوا اتفاقية الأمم المتحدة عام 1965 ضد التمييز العنصري، وقانون اليوم تكملة لهذه الإنجازات… لقد استغرق الأمر وقتا طويلا ولكنه اليوم موجود، ويمكن أن نفخر بكوننا الأوائل في العالم العربي الذين حققنا ذلك”.

والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري اعتمدت وعُرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 21 ديسمبر 1965، ودخلت حيّز التنفيذ في 4 يناير 1969. ويحدد القانون الجديد عقوبات للإدلاء بكلام عنصري، تتراوح بين شهر وسنة من السجن وغرامة مالية تصل إلى ألف دينار (نحو 300 يورو).

كما يعاقب بالسجن من عام إلى ثلاثة أعوام وبغرامة مالية من ألف إلى ثلاثة آلاف دينار (ألف يورو) كل من يحرض على العنف والكراهية والتفرقة والتمييز العنصري، وكل من ينشر أفكارا قائمة على التمييز العنصري أو كذلك “تكوين مجموعة أو تنظيم يؤيد بصفة واضحة ومتكررة التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه”.

ويمكن أن تبلغ الغرامة المالية 15 ألف دينار (حوالي خمسة آلاف يورو) بالنسبة إلى الشخص المعنوي.

ولفت زياد روين المنسق العام لجمعية “منامتي” إلى أن هذا القانون ليس كافيا؛ إذ يقول إنه “لا يمكن أن نطالب مجتمعا بتغيير سلوكه وعقليته ما دامت الدولة في حد ذاتها لم تلتزم بذلك”، مطالبا الدولة بزيادة تمثيل أصحاب البشرة السوداء في المؤسسات.

من جانبه قال النائب في البرلمان التونسي رؤوف الماي إن تغيير العقليات ليس أمرا هينا وإن وجدت القوانين.

ويبقى التحدي الأكبر في تونس هو تغيير العقليات. وكان رئيس الحكومة التونسية السابق يوسف الشاهد، قال إن بلاده “ما زالت من البلدان التي يعاني فيها السود” داخل المجتمع.

وأشار الشاهد إلى أن “تونس من أول البلدان التي ألغت العبودية ووقّعت الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، لكن للأسف ما زالت تونس من الدول التي يعاني فيها السود”. وأضاف “لا مجال لأن يكون هناك تمييز عنصري في تونس، ويجب العمل على تغيير العقليات، وتجريم كل تمييز عنصري ضد فئة من المجتمع التونسي أو ضيوف البلاد”.

من جانبها تؤكد سعدية مصباح، رئيسة جمعية “منامتي” المدافعة عن حقوق أصحاب البشرة السوداء في تونس، أن “العقليات لا تُغيّر بأوامر ونصوص قانونية، وإن كان ذلك ضرورياً لردع المعتدين، وإنما لا بد من مجهود كامل تقوم به الدولة للتوعية والتنبيه إلى ثقافة حقوق الإنسان ومقاومة التمييز”. وتضيف أن الدولة مطالبة بتغيير البرامج التكوينية والتربوية وإعطاء فرصة أكبر لظهور ذوي البشرة السوداء في المناهج التعليمية وفي وسائل الإعلام. وتُعلق سعدية بسخرية قاتمة قائلة “كي لا يتفاجأ التونسيون بوجودنا إذا رأوا واحداً منا يقدم النشرة الجوية على شاشة التلفزيون”.

20