القاعدة يستثمر نصر طالبان لتصدر مشهد الجهاد العالمي

التنظيم يعمل على تعميم النموذج الأفغاني عبر فروعه المحلية في دول مختلفة.
الثلاثاء 2021/09/07
نصر طالبان جرعة دفع للجهاديين حول العالم

لم يختلف بيان القاعدة المركزي الأخير الذي هنأ به طالبان بالنصر على الولايات المتحدة وانسحابها من أفغانستان من الناحية الظاهرية عن بيانات فروعه السابقة، لكنه حمل العديد من الإشارات والرسائل الخفية للطيف الجهادي في العالم وقادة الحركة أنفسهم.

يصعب التعامل مع البيان الذي أصدره القاعدة المركزي (قاعدة أيمن الظواهري) في الأول من سبتمبر، أي بعد رحيل آخر جندي أميركي من أفغانستان مع نهاية أغسطس، على اعتباره مجرد تهنئة لطالبان بالنصر على الولايات المتحدة.

واستثمر تنظيم القاعدة الحدث (نصر طالبان) ليتخذ مكانه في تصدر مشهد الجهادية العالمية بجوار طالبان المنتصرة على القوة العظمى في العالم والمهيمنة حاليا على مقاليد السلطة في كابول.

ولم يكتفِ بيان القاعدة المركزي الذي يعلم من كتبه كيف تلقته طالبان وأجهزة الاستخبارات الغربية وواشنطن بعبارات التعالي والتباهي في ما يتعلق بالتأكيد على أهمية “النصر التاريخي” وكونه “موعود الله للفئة المؤمنة بالنصر” والذي خيب “وعد جورج بوش بالهزيمة” وأثبت “وعود الله بالنصر”.. الخ، فهذا ما اكتفت به بيانات فروع القاعدة المحلية كبيان وتصريحات قادة هيئة تحرير الشام في سوريا، وبيان فرع القاعدة في اليمن الذي حمل عنوان “تهنئة ومباركة بالفتح والتمكين في أفغانستان”.

وعمد القاعدة المركزي إلى جانب توظيف تلك التحولات الكبرى في المشهد الأفغاني لصالح حليفته القديمة طالبان لضخ الدماء في عروقه وإرسال شحنات معنوية لعناصره وقادته الكامنين والمُلاحَقِين على خلفية التمسح بتفوق طالبان واعتباره نصرا للقاعدة ومختلف الطيف الجهادي في العالم، إلى تضمين بيان التهنئة برسائل توحي بأنه حاضر بقوة في المشهد الأفغاني والجهادي ويتهيأ لجني المكاسب على المستويين.

إملاء الشروط

تنظيم القاعدة ينظر إلى نفسه كوصي ومرشد لكافة طيف الجماعات الجهادية بعد سيطرة طالبان على أفغانستان

حَفَلَ البيان في بعض محطاته بالغموض وانطوت بعض العبارات والإشارات على حاجة القاعدة إلى أن يبدأ مرحلة جديدة في علاقته بطالبان، لا تكون فيها الحركة الأفغانية صاحبة الكعب الأعلى والكلمة الوحيدة وتضع المحددات وتضبط مسارات الحركة، حيث أوحى في العديد من فقراته إلى أن القاعدة يريد علاقة متوازنة مع الحركة.وإذا كانت طالبان هي السلطة الجديدة الصاعدة والمتحكمة في مقاليد الحكم، فتنظيم القاعدة ينظر إلى نفسه كوصي ومرشد لكافة طيف الجماعات الجهادية التي لن تستغني طالبان عن التعاون مع بعضها لمواجهة خطر بعضها الآخر المتمثل في ولاية خراسان، أي فرع داعش في أفغانستان وغيرها.

وعمد قادة القاعدة المؤثرون في أفغانستان وكل ساحات الحرب التي تخوضها طالبان ضد خصومها الميدانيين إلى إفهام طالبان أن النفوذ الخارجي والتأسيس لسياسة تجبر مختلف القوى على احترام الحركة وإقامة علاقات ودية معها لن يحدث بغير تحقيق توسع واستنساخ للنموذج الطالباني في الخارج عبر جماعات موالية للقاعدة في أفريقيا والشرق الأوسط تتهيأ لتحذو حذو طالبان، ما يعني استنساخ النموذج الطالباني وتعميمه من خلال جهود أفرع القاعدة المحلية.

ويركز قادة القاعدة في الداخل الأفغاني على تثبيت نفوذ شبكة حقّاني التي تلعب دورا محوريا في استمرارية وتمتين العلاقة بين طالبان والقاعدة، ولذلك ذكر بيان القاعدة في سياق الإشادة بجانب الملا عمر وأختر منصور اسم جلال الدين حقّاني مؤسس شبكة حقّاني التي تصنفها واشنطن إرهابية.

التنظيم يركز في الداخل الأفغاني على تثبيت نفوذ شبكة حقّاني التي تلعب دورا محوريا في استمرارية العلاقة وتمتينها بين القاعدة وطالبان

وتوحي هذه الإشارة بأن تنظيم القاعدة يتخندق مع شبكة حقّاني ضد أي تعاون أمني بين واشنطن وطالبان، وهو ما ألمح إليه بعض المسؤولين الأميركيين عندما اعتبروا أن مجموعة حقّاني تختلف عن طالبان، ما يعني أن القاعدة بصدد ترتيب البيت الجهادي الأفغاني على مقاس مصالحه لإجبار طالبان على إعادة هيكلة استراتيجيتها بعد الانسحاب الأميركي بالنظر إلى تفاهماتها السابقة مع واشنطن وتقديم علاقاتها مع الجهاديين في شبكة حقّاني والقاعدة على أي وعود كانت أعطتها للأميركيين.

وبجانب هذه الإشارات التي تُعد بمثابة خطوط إرشادية جديدة يضعها القاعدة لطالبان وردت في البيان إشارات أخرى توحي بأن القاعدة إذا لم يجد استجابة لشروطه ومحدداته واحتراما لمصالحه من قبل طالبان فمن الوارد أن يتمرد أو يُبدي عدم التعاون.

ولم يحدث في السابق أن قدم القاعدة رسائل من هذا النوع في ما يتعلق بالعلاقة مع طالبان، وبعد صعود الحركة للسلطة مجددا حرص في بيانه الأخير على التلويح بالانشقاق وورقة الانضمام لداعش والتمرد وعرقلة الحركة الأفغانية فلا تقدر على تحقيق أهدافها، حيث لم يتطرق البيان كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات لتجديد القاعدة بيعته لطالبان وأميرها.

وبجانب عدم منح البيعة وتجديد الولاء لقادة طالبان تمنى البيان في الختام أن ينجح قادة طالبان في “تحكيم الشرع في أفغانستان” وهي أيضا عبارة غريبة لم ترد سابقا في أي بيانات تخص طالبان، خاصة أن الحركة الأفغانية بالنسبة إلى القاعدة هي نموذج الدولة الإسلامية المثالية وقائدها هو “أمير المؤمنين”.

وتمني القاعدة نجاح طالبان في تحكيم الشرع وحرص على عدم تجديد البيعة في مناسبة هي الأجدر بذلك بعد تحقيق نصر جهادي كبير والهيمنة على مقاليد السلطة، ليس له معنى سوى بعث رسالة لقادة طالبان أن القاعدة شريك في الحرب وينبغي أن يكون أيضا شريكا في النصر ومكتسباته، وإن لم يحدث فلديه خيارات أخرى للتنغيص على الحركة الأفغانية والأوراق متاحة وورقة الانشقاقات والتمرد حاضرة والمزايدات في المُتَنَاوَل.

استراتيجية جديدة

Thumbnail

يمكن وصف البيان الأخير للقاعدة بالجريء لأنه يتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها واشنطن بشأن علاقات القاعدة بطالبان والتي تُلزِم الحركة الأفغانية بقطع علاقاتها بالقاعدة وعدم توفير ملاذ له بأفغانستان، فضلا عن التعهد بمنع أي نشاط حركي أو تنظيمي أو تدريبي أو مد لوجستي من شأنه السماح بتهديد جهادي من الأرض الأفغانية لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

ويبدو أن القاعدة يرغب في أقصى استغلال ممكن للحدث الأفغاني الكبير لتحقيق ما يستطيعه من مكاسب في لحظة يعتبرها تاريخية، خاصة تلك المكاسب المتعلقة باستعادة تماسك التنظيم والبدء في إعادة بنائه من نقطة إسهامه مع طالبان في هزيمة القوة العظمى في العالم وطردها من أفغانستان وهو ما يمنحه قدرة كبيرة على لملمة شتاته، فضلا عن تجنيد عناصر جديدة منبهرة بالإنجاز الجهادي الاستثنائي.

ووضحت تلك الرغبة في عبارات القدح والتقريع القاسي التي استخدمها بيان القاعدة في وصف الأميركيين وأعوانهم مشيدا بالنصر التاريخي المؤزر على القوة العظمى بالعالم تحت قيادة الإمارة الإسلامية، ما يعكس توخي القاعدة استثمار انتصار طالبان لتأجيج حماسة الجهاديين في البلدان الأخرى ودفع المزيد من المجندين للانضمام إليهم.

ويعكس مضمون البيان عبر قراءة ما بين سطوره ملامح استراتيجية مقبلة للتنظيم تؤسس لمرحلة ما بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وصعود طالبان للسلطة، حيث اعتبر أن هيمنة طالبان على أفغانستان من شأنها إفساح الطريق لتحرر الشعوب الإسلامية وحتى “شعوب أوروبا ودول شرق آسيا”، وفق نص البيان، خاصة بعد “تمريغ أنف الولايات المتحدة والناتو في أوحال أفغانستان”.

وتشير هذه المعطيات إلى أن القاعدة يخطط لاستنساخ التجربة الطالبانية في عدد من مناطق العالم التي تشهد نشاطا كبيرا للقاعدة في ساحة تستعين فيها سلطة محلية هشة بجيش ضعيف وأجهزة أمنية مفككة بدعم قوة أجنبية خارجية، كما هو الحال في بعض دول أفريقيا.

وتتسم الاستراتيجية الجديدة التي رسم بيان القاعدة المركزي الأخير ملامحها بالتشدد حيال الولايات المتحدة، على الأقل من خلال الخطاب الدعائي والإعلامي بعد أن كان هذا الخطاب خجولا ومتحفظا السنوات الماضية كي لا يسبب القاعدة أي حرج لحركة طالبان، أما وقد انسحبت واشنطن وهيمنت طالبان على الساحة فقد اختلفت الأوضاع وبات للقاعدة التحرر في خطابها واستخدام الأوصاف وعبارات القدح القاسية تجاه الولايات المتحدة والدول الغربية.

واستخدم بيان القاعدة عبارات في منتهى القسوة في وصف ما جرى للولايات المتحدة وحلفائها على أيدي الجهاديين، حيث وصف البيان واشنطن بأنها رجس ورأس الكفر العالمي، والتي رجعت خائبة صاغرة ذليلة مقصومة الظهر بعد أن تم تمريغ أنفها في أوحال أفغانستان في استعادة لخطاب بن لادن وقادة القاعدة القدامى.

وسيختلف واقع التنظيم بعد صعود طالبان وانسحاب واشنطن عن واقعه قبل ذلك والذي كانت تحكمه اعتبارات ومحددات أمنية واستخباراتية لم يعد لمعظمها وجود على الأرض الآن.

طموحات ومعوقات

لن نبقى مكتوفي الأيدي
لن نبقى مكتوفي الأيدي

أصدر القاعدة بيان تهنئته لطالبان بالنصر في غرة سبتمبر 2021 أي بعد يوم واحد من إجلاء كامل القوات الأميركية واطمئنان تنظيم القاعدة إلى أن أفغانستان صارت خالصة لطالبان حليفته القديمة، والتي يُملي عليها شروطها حتى لا تنسى أصدقاءها الحقيقيين في غمرة النصر والانتشاء بمذاق السلطة التي ستجعل قادتها في مكان آخر بجانب الدبلوماسيين وقادة القوى الكبرى ودول الجوار الإقليمي.

وعمد القاعدة إلى انتظار رحيل القوات الأميركية حتى آخر جندي ليصدر بيان تهنئته حتى لا يحرج طالبان التي ستكون في موقع قوة بعد الانسحاب الأميركي الكامل ما يجعل دعم القاعدة المُعلن غير مؤثر ولا يتسبب في أي تغيير في الأمر الواقع، فهل ستتعامل طالبان من نفس المنظور وهل هي في وارد التعامل مع القوى الخارجية من منطلق أنها لا تزال على علاقة جيدة بالقاعدة، وليس في ضوء تعهداتها السابقة بقطع تلك العلاقة؟

وعلى المدى الطويل هناك معضلة حقيقية تواجه طالبان بجانب معضلة تحسين الاقتصاد وإدارة الدولة وهي فرض الأمن والاستقرار عبر ضبط علاقاتها وتحالفاتها مع الجهاديين؛ فهناك القاعدة المركزي الذي يبحث عن دور ويطالب بنصيبه في الأرباح والمغانم، مقابل داعش الذي يرفع السلاح ويتهيأ لإفشال طالبان لتكريس خلافته.

إذا كيف ستحتوي طالبان القاعدة للتفرغ لداعش، وكيف ستقنع مختلف القوى بأنها مجبرة على احتواء جناح من الجهاديين العالميين والذي لن يقنع قادته بالقليل والكمون في ساحة صارت مفتوحة ومغرية للحركة وإعادة البناء وخوض التنافس مع أجنحة الجهاديين الأخرى؟

12