القاص العراقي عبدجعفر يسلط الضوء على ناس الظل

أدهشني القاص عبدجعفر -يعمل حاليا مع مثقفين بإدارة المقهى الثقافي العراقي في لندن- وهو يصف لي حواضن الفقر في بغداد خلال الخمسينات، كمدينة الثورة والشاكرية، وكأنما يراها الآن من بريطانيا. أبطاله مدهشون أيضا في مجموعته القصصية “أحزان المرايا ومسرّاتها”، الصادرة هذا العام 2015، لا تنساهم بسهولة، فتراهم في خيالك يرفعون أكفهم في وجه الحياة، ويرسمون على شفاههم ابتسامات ساخرة، كأنهم لا يعيشون حياة حقيقية.
الأربعاء 2015/09/09
قصص الفقراء كنزي الذي لا ينفد وأنا أبحث دائما لاكتشاف خبايا النفوس

القاص عبدجعفر، من مواليد 1954 بغداد – الشاكرية. اغترب عن بلاده منذ 1979، وأرخ الهمّ العراقي في ثلاث مجموعات، أولها كانت “البيت الأخضر” صدرت في بيروت 1994 و”سقوف المنازل” في بريطانيا 2003، والأخيرة في الإمارات العربية المتحدة.

التقط قصصه من زوايا نظر مختلفة، وبأساليب متعددة جمعت بين التحليل النفسي والاجتماعي والسياسي، ومن خلال سرد شائق. وتفنّن في طرح الإشكاليات برؤى وصفية لتداعيات المكان، ووظف الوصف كما تراءى لأبطاله، وأتقن كتابة الحوار (الديالوغ)، ليكمل به “التداعيات الباطنية” في كل قصة.

العنف والعنف المضاد

سرد عبدجعفر في مجموعاته القصصية ما عاشه العراقيون في ظل العنف، وما قابلوه من عنف مضاد، وما عاشوه من رعب في ظل حكومات العراق، منذ ستينات القرن الماضي.

الحياة التي رسمها للشاكرية، وهي إحدى حواضن الفقر في الخمسينات، أشرت على حالة غليان الناس بسبب ظروف حياتهم الصعبة وحلمهم بالتغيير يقول: ولدت في منطقة الصرائف التي تحيط بغداد، وجل سكانها من مهاجري الجنوب.

وصارت الشاكرية -المنطقة الخضراء حاليا- بعد إعدام الزعيم عبدالكريم، في انقلاب 1963 هدفا لانتقام الانقلابيين، وذلك لمحبة أهلها للزعيم، إذ جرى تهجيرهم إلى أرض جرداء تعود إلى حكمت السلمان.

ويضيف قوله “أحيطت مدينتي الشاكرية بأسلاك شائكة من قبل الحرس القومي، ووضع الجنود خيامهم هنالك ولهذا سميت جوادر، وأصبحت بعد ذلك هذه المنطقة امتدادا لمدينة الثورة، التي خطط لها الزعيم لإقامة بيوت لائقة للفقراء”.

تخرج عبدجعفر من كلية الآداب، جامعة بغداد في السبعينات، ودخل هذه الكلية بهدف أن يكمل عدته كقاص، إذ كان يكتب القصة منذ الستينات، وكان معينه ما عاشه في الشاكرية “تستـطيع القول إن قصص الفقراء كنزي الذي لا ينفد.

وأنا أبحث دائما لاكتشاف خبايا النفوس، وكيف ينظرون إلى لأمور، وكذلك التقاط أشياء قد تبدو عادية في عيون الناس، وأنظر إليها من زوايا أخرى، في محاولة لكشف الشخصية: تصوراتها وأحلامها لخلق صورة جمالية تشبع تطلعاتنا، ولإثارة الجدل حولها”.

قصص عاشها العراقيون في ظل العنف

في قصص عبدجعفر من شجون الناس ما لا يمكن لأي باحث رؤيته في ما أبدعه غيره من القصاصين العراقيين، ممن عاصروه، كغازي العبادي وفؤاد التكرلي وفهد الأسدي، وغيرهم، يقول “كثيرا ما ألتقط من أحاديثي مع الناس حدثا، ولا يخلو الأمر كما يقولون من بيضة العاقر، وعندما أفشل في التوصل إلى طريقة بناء القصة المطلوبة، أشعر أنها تمدّ لسانها أمامي ساخرة مني، لأني لم استطع إخراجها إلى الضوء”.

ويضيف قوله: القصة عندي كائن حي ينمو بعيدا عني ويتطور، ويتضخم أحيانا، ويقودني إلى الفانتازيا، فالحلم جزء من الشخصية، وأحلامها كثيرة، لكنها مؤجلة دائما وغير قابلة للتحقق.

إنها تتجه إلى الداخل فتصير كبتا وغيظا وانفعالا بعد أن تحالف الجميع ضدها، وللأسف فالرأفة مقطوعة الذراعين في بلداننا، وكما يقول مثلنا الشعبي “لا خليك ولا خلي رحمة الله تجيك”.

ويتابع “العراقي يولد محاطا بالممنوعات المعروفة وغير المعروفة، وهو يبلع بلا هضم أو سؤال، وإن تجرّأ على فتح فمه دون إذن، أصبح عرضة للسجن، والقتل والمطاردة. وهنا تقع عليَّ ككاتب مهمة كشف انسحاقه، وإضاءة أحلامه التي امتلأت بصور حب الخروج من العتمة”.

حوادث ماضية

استخدام عبدجعفر للغة نابع من تجربة طويلة، وقد حرص على استخدام الفعل المضارع كثيرا بدلا من الفعل الماضي بالرغم من أن الكثير من قصصه يحكي عن حوادث ماضية.

يقول جعفر “أحاول أن ألامس أرض الشعر في لغتي، أنجح أحيانا وأخفق أحيانا. وأسعى أن تكون جملتي رشيقة موجزة وحادة النبرة، وفي الحركة (المضارعة) دلالة على الفكرة، كي أنجو من التقريرية، وأتخلص من الترهل. كتابة المونولوج يفرض عليّ التعايش مع الشخصية طويلا، فأنا أحاورها وتحاورني، أتغلب عليها وتتغلب عليّ أحيانا.

وهكذا يستمر الصراع على الورق، لكنني أرفض ترويضها كي تصبح (أنا) آخر، بل أترك لها الحرية، كي تستطيع أن تبوح بمكنوناتها، ويتصاعد المونولوج في توتره إلى فعل يقود الشخصية، للتبلور عند القارئ، واكتمال الحكاية”.
14