القادة العرب في ضيافة قائد السبسي

لم يكن ما خلف سطور حوار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي مع صحيفة “العرب” الدولية قبل شهرين من اليوم بقصر قرطاج يخفي توق هذا الرجل المخضرم إلى مشروع عربي جامع يظلل تحته المصالح العربية كما هي حال بقية الأمم المتحضرة. ولكن الرياح التي هبت على العرب خلال العقود التسعة التي عاشها أكبر رئيس لقمة عربية سناً عبر تاريخ جامعة الدول العربية، لم تأت كما اشتهى وتمنى.
واليوم يستقبل قائد السبسي الزعماء العرب الذين يحلون في بلاده للمشاركة في القمة العربية الـ30، حاملاً في جعبته خبرة تشكلت عبر مسيرة طويلة من العمل السياسي والدبلوماسي خاصة، عاشها سفيرا ووزيرا للخارجية، فضلا عن العديد من المهمات الأخرى التي تولاها منذ الاستقلال وأثناء مرحلة بناء الدولة الوطنية. مسيرة تجعله يرى بوضوح خارطة العالم العربي وملفاته وقضاياه ويدرك آفاق العمل المشترك في ظل الظرفية العربية والإقليمية الراهنة.
تونس التي تتجه إليها الأنظار يأتي الاهتمام بها في هذا التوقيت، بدوافع مختلفة وعديدة، منها ما يتصل بهذه الدولة التي “نجت” من المآلات المريعة للربيع العربي، ومما حدث جراءه في أقطار عربية أخرى. ومنها ما يتصل بكيفية رؤية تونس للقمة ذاتها. ومنها ما يعود إلى تصور رئيسها الذي يشدد على أن يولى الحدث ما يستحقه من اهتمام، وهو الذي قال إن “تونس تتمنى من القمة العربية مزيدا من تقريب العرب من بعضهم البعض وإيجاد حلول عقلانية وليست عاطفية للمشاكل القائمة”.
رؤية قائد السبسي للحدث العربي وما يمكن أن يستخلص منه، تنسجم مع رؤى العديد من القادة العرب الذين يكنون له احتراما كبيرا. وربما شجع وجوده في الرئاسة الكثيرين منهم على التوجه صوب العاصمة التونسية لحضور الحدث بالغ الأهمية في هذا التوقيت السياسي المكثف بالتحديات
تبدو رؤية قائد السبسي للحدث العربي وما يمكن أن يستخلص منه، منسجمة مع رؤى العديد من القادة العرب، الذين يكنون له احتراما كبيرا، وربما شجع وجوده في الرئاسة الكثيرين منهم على التوجه صوب العاصمة التونسية لحضور الحدث بالغ الأهمية في هذا التوقيت السياسي المكثف بالتحديات. تقدير عربي لم ينبع من انطباعات ذاتية أو تقديرات عاطفية، وإنما صدر من احترام العرب لرؤية قائد السبسي لدور تونس ومستقبلها ونظرته للعمل العربي كما لمحاولاته الدؤوبة لعلاج الدبلوماسية التونسية من خدوش كثيرة أصابتها جراء سنوات حكم الترويكا.
ويأتي قائد السبسي من ذهنية عصر الزعيم الحبيب بورقيبة، وهي ذهنية رأت بنفسها كيف نهضت الدول العربية التي كانت خارجة لتوها من تحت سطوة الاستعمار، لتبدأ خطواتها الأولى نحو الحداثة. بعض تلك الدول أخفق، وبعضها تعثر. لكن تونس وبفضل إرادة تشبه تلك التي يحملها قائد السبسي، صمدت في وجه العواصف العاتية، وتمكنت من ترسيخ التحديث الذي جعلها متقدمة جداً على الكثير من نظيراتها في العالم العربي.
فحين التقى ذلك المحامي الشاب مطلع الخمسينات ببورقيبة، تأثر به أيما تأثر. وانخرط بسرعة في مشروع النضال الوطني، مؤمناً بالمضامين الوطنية التي كان يحرص بورقيبة ورفاق دربه على التشديد عليها؛ الواقعية السياسية والبراغماتية، وسياسة المراحل، وبناء الدولة لبنة- لبنة، مع عدم القطع البات مع إيجابيات المرحلة الفرنسية. ومع الزمن باتت القواسم المشتركة بين بورقيبة وقائد السبسي أكثر فأكثر، متيحة للأخير أن يتقلد مناصب سياسية كثيرة بعد الاستقلال، لكنها أيضا مكّنته من أن ينهل من المدرسة البورقيبية كل مبادئها.
ملفات العرب على طاولة الرئيس
يرى قائد السبسي القمة العربية من زوايا نظر مختلفة، ليس أقلها استرجاع ألق الدبلوماسية التونسية التي طالما عرفت بالتوفيق بين النجاعة والحياد، ومحاولة تسويق النموذج التونسي في التوافق والحوار على المستوى العربي. غير أنه يدرك أن هذه القمة ستكون قمة غير عادية، ألم يقل في حواره مع “العرب” موصفا مرحلة صعبة مرّت بها بلاده “عندما توليت الرئاسة كانت تونس في قطيعة مع أغلب الدول العربية؛ مصر، الجزائر، ومختلف الدول العربية، إلا قطر. أعدت المياه إلى مجاريها. وقمت بزيارة كل الدول العربية من مصر إلى الكويت والسعودية”.
الملف الليبي يراه قائد السبسي ملفا هاما جدا وحيويا للغاية، بالنسبة لتونس. كيف لا وهو من المؤمنين بأن ليبيا وتونس “شعب واحد في دولتين” كما يقول. يرى قائد السبسي أن الدولة عندما انهارت في ليبيا تضررت تونس على الفور. لذلك يرغب ومعه الشعب التونسي بعودة الدولة الليبية، ويعلن أنه يعمل من أجل ذلك. لكنه واتساقاً مع طبيعة فكره السياسي، يرفض أي حلول تأتي عبر تدخلات خارجية لأن تلك التدخلات هي التي عقّدت الأوضاع. ولا يقتصر الضرر الذي تعرضت له تونس، بسبب الأوضاع في ليبيا، على مفهوم الدولة، بل يتجاوز هذا عند قائد السبسي إلى نطاق الخطر الإرهابي. فما دام الوضع على حاله في ليبيا، فإن الإرهاب سيصل حتماً إلى تونس.
وكان قائد السبسي يأمل بأن تكون القمة، قمة عودة سوريا إلى الحضن العربي، أو كما يصفها “جمع الصفوف وستتم في أحسن الظروف. فنحن لا نملك مواقف سلبية ضد سوريا أو أي كان. نحن مع الإجماع العربي، والقرار الذي ستعتمده الجامعة العربية سنعتمده”. غير أن قائد السبسي عاد وقال إن “هذا القرار ليس في يد تونس. بل يتوقف على قرار الجامعة العربية والتوافق العربي”، ولدى سؤاله عما إذا كانت سوريا ستعود، إن رجعت إلى الحضن العربي، بقيادة الرئيس بشار الأسد ذاته، أجاب قائد السبسي أن “الأشخاص يموتون وتبقى الدول”.
الملف الليبي يراه قائد السبسي ملفا هاما جدا وحيوياً للغاية، بالنسبة لتونس. فهو من المؤمنين بأن ليبيا وتونس "شعب واحد في دولتين" كما يقول. وهو يرى أن الدولة عندما انهارت في ليبيا تضررت تونس. لذلك يرغب بعودة الدولة الليبية ويعلن أنه يعمل من أجل ذلك. رافضاً أي حلول تأتي عبر تدخلات خارجية
لكن هذا كان قبل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير باعتراف واشنطن بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية التي تحتلها منذ العام 1967 ولا شك أن قراراً هاماً وغير مسبوق مثل هذا، لن يكون بعيداً عن طاولة قائد السبسي وهو يناقش الملف السوري في اجتماعات القمة العربية، لاسيما بعد إقرار بنود أعمالها، والتي يأتي في مقدمتها تأكيد عروبة الجولان السوري المحتل، وسبل دعم القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى ملفات مكافحة الإرهاب، ومواصلة مناقشة الحلول السياسية في ليبيا واليمن، كما أكد وزير الخارجية التونسي خميس الجهيناوي الذي قال إن الدول العربية “تمر بظروف دقيقة تحتاج إلى توصيات يجري التوافق عليها”.
أما الإقليم بأبعاده، فلا يعفي رئيس القمة العربية نفسه من التفكير في أن هناك الكثير من الأطراف تعبث بأيديها فيه، مثل إيران وتركيا، وبالطبع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي يربط قائد السبسي موقفها بموقف إسرائيل ومصالحها في المنطقة العربية كلها. لكنه يرى الدور اللافت لروسيا الاتحادية في مفاصل عديدة، فالعالم اليوم حسب قائد السبسي “لم يعد مثل عهد الحرب الباردة منقسما، وروسيا اليوم فاعل رئيسي. اليوم الولايات المتحدة والغرب يتعاونان مع روسيا لحل المشاكل في المنطقة”.
رسائل استباقية
قائد السبسي باستعراضه لما يراه اليوم في العالم العربي ومقارنته بما عاينه شخصياً في عهود مختلفة، يحزنه غياب مشروع جامع يربط مصالح العرب ويوقف مشاريع الآخرين، يقول “كنا نأمل أن يكون هناك مشروع عربي”، مشيراً إلى الوضع في مجلس التعاون الخليجي الذي كثيرا ما رآه “أهم إنجاز في المنطقة وكنّا نفخر به” كما يقول. ولا يفوته الأسف لتعثر مشروع الاتحاد المغاربي الذي يستذكره بالقول “كنّا سباقين في المغرب العربي”.
ولذلك كله استبق قائد السبسي القمة العربية بعدد من الرسائل حول الملفات العربية، أبرزها يتعلق بالعلاقات السعودية التونسية. فأعلن أن المملكة هي أساس المنظومة العربية وأن العلاقات السعودية التونسية هي اليوم في أعلى مستوى لها.
الجزائر التي تشهد حراكا شعبيا كبيرا وصلت أصوات هتافات الشارع فيها إلى مسمع قائد السبسي، الذي انحاز بلباقته إلى الجماهير، حين قال قبل أيام “زرت الجزائر وقابلت بوتفليقة، فهو صديق قديم”، مضيفاً أن “بوتفليقة قام بواجبه، لكن الشعب رأى أن هذه التجربة يجب أن تنتهي”
العراق ومعاناة شعبه في ضيافة القمة العربية أيضاً، ذلك البلد العربي الذي ينظر إليه قائد السبسي بعينين متأثرتين، وهو الذي قال عنه إنه كان حتى زمن قريب “دولة حضارة وتقدم تكنولوجي، وكانت فيه قيادات، أما اليوم فقد رجع إلى ما قبل الدولة ويلزمه ربما 50 سنة ليعود”.
ولا شك أن أصوات هتافات الشارع في الجارة الجزائر التي تشهد حراكا شعبيا كبيرا، قد وصلت إلى مسمع قائد السبسي الذي انحاز بلباقته إلى الجماهير، حين علق قبل أيام قليلة على ما يجري فيها قائلاً “زرت الجزائر وقابلت بوتفليقة، فهو صديق قديم، وأنا شخصيا أعرف جيداً هذا البلد، فجانب كبير من حرب الاستقلال في الجزائر مر في تونس”. يضيف قائد السبسي هنا ما لن يتوقعه منه كثيرون “بوتفليقة قام بواجبه، لكن الشعب رأى أن هذه التجربة يجب أن تنتهي”، مؤكداً أن “الجزائريين دفعوا دماً ليرووا أرضهم، وهم قادرون بالتالي على التعامل بحكمة مع الوضع الحالي”.
قاموس سياسي يحتاجه العرب
عُرف قائد السبسي بقاموسه السياسي الخاص، الحافل بمفردات يكررها ويواظب على استعمالها في خطاباته وتصريحاته ومواقفه. قاموس مشتق من لحظات تأسيس الدولة بعد الاستقلال، مفردات تشير إلى التشبث بالمؤسسات والتأكيد على هيبتها، وتؤشر على الوحدة الوطنية وضرورة الإيمان بالحوار، والبحث عن المشتركات الدنيا في العمل السياسي.
وفي المشهد الراهن، حيث تستعد تونس لتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، وحيث تزداد المعاناة الاقتصادية، وحيث لم يحسم قائد السبسي ترشحه للرئاسة، وحيث تناور حركة “النهضة” وتضع كل خياراتها على المزاد السياسي بحثا عن مرشح مضمون على أن يقيها تبعات المحاسبة، تستقبل تونس القمة العربية، في سياق عربي ودولي لا يقل دقة عن المشهد المحلي. والواضح، الآن، أن الرئيس التونسي يريد أن يضيف وسام الإنجاز العربي لسنوات حكمه، بعد أن اختطّ مسيرة محلية حافلة، قبل الاستقلال وأثناء بناء الدولة الوطنية، وبعد الثورة.
قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير باعتراف واشنطن بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية التي تحتلها منذ العام 1967 لن يكون بعيداً عن طاولة قائد السبسي وهو يناقش الملف السوري في اجتماعات القمة العربية، لاسيما بعد إقرار بنود أعمال القمة والتي يأتي في مقدمتها تأكيد عروبة الجولان
لقد تعرفت الأجيال التونسية الجديدة على قائد السبسي بعد الثورة على نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، حين عينه الرئيس المؤقت فؤاد المبزع، رئيسا للحكومة المؤقتة في فبراير 2011. وكانت عودة قائد السبسي يومذاك متزامنة مع حالة عدم وضوح في الرؤية عند التونسيين، مرحلة تتداخل فيها المعطيات السياسية بالأمنية بالاجتماعية. عاد قائد السبسي بعد اعتصام القصبة الذي كان يطالب بإبعاد رموز النظام القديم وإنشاء مجلس تأسيسي ودستور جديد للبلاد، ولم تكن عودة يسيرة في تلك الظرفية التونسية الموسومة بالتشنج والتي كانت تتطلب رؤية سياسية تؤمن بمضامين الثورة ولا تذهب نحو تحطيم الدولة ورفض كل تجلياتها. أصوات كثيرة كانت ترفضه، لأنه، في نظر البعض، يمثل “النظام القديم”. وفي المقابل كان قائد السبسي، برفقة طائفة واسعة من السياسيين، على قناعة بأن الوضع يتطلب تدويرا للزوايا، مثل استيعاب الاحتجاجات الغاضبة المشروعة في أغلب شعاراتها وتعبيراتها، وصون الدولة والإدارة والمؤسسات، التي احتاجت عقودا من العمل والبناء، والتي لا يعقل التفريط فيها بناء على تشنج سياسي. لقد كان المشهد التونسي يوفر لحظة دقيقة يومها، قوامها أن الثورة على نظام بن علي، ورغم كل مشروعيتها، لا تعني معاقبة الدولة وتبديد مكتسباتها.
عند تلك اللحظة أجمعت النخبة السياسية التونسية على أن تونس تحتاج لمسار سياسي يأخذ البلاد إلى ميناء السلام، أكثر مما تحتاج إلى مظاهرات وشعارات حماسية. وفي الأثناء اندلعت نظائر أخرى للثورة التونسية، وبدا أن المشهد قد يتحول إلى حريق، خاصة مع بدء وصول جحافل اللاجئين الأفارقة والليبيين، من ليبيا إلى الأراضي التونسية. أعلن قائد السبسي مبادرته التي حملت عنوان “نداء تونس”، ووجه نداءه للتونسيين كي يتوحدوا على أساس برنامج سياسي وسطي يكون وفيا للدولة الوطنية ومنسجما مع المرحلة الجديدة التي تمر بها البلاد. ترشح إلى الانتخابات الرئاسية للعام 2014، وأصبح رئيسا للجمهورية.
واليوم يدخل قائد السبسي القمة العربية مدججا بخبرته السياسية، وبدهائه الذي اختبر طويلا في المنعطفات السياسية، آملاً بتجاوز التعقيدات العربية الراهنة. إلا أن أحد الآمال المعلقة على إمكانية نجاح القمة في استرجاع النظام العربي تعافيه هو أن الحدث ينتظم في تونس، وبضيافة زعيم عربي يعد أحد القابضين على جمر الدولة والحلم العربي بالحداثة والتعاون والمضي إلى المستقبل.