الفيلم الأميركي "1992" مرآة للصراع العنصري ضد السود في أميركا

الرباط- تجري أحداث الفيلم “1992” للمخرج أريل فرومين على وقع اضطرابات الشغب التي اندلعت بسبب الاعتداء الوحشي للشرطة على رودني كينج، إذ يحاول ميرسر الذي يجسد دوره الممثل تيريس جيبسون، التركيز على تربية ابنه وإعادة بناء حياتهما من جديد، في حين يخطط أب وابنه لسرقة كبيرة تستهدف المصنع الذي يعمل فيه ميرسر، فتتشابك العوالم في إطار مشوق مليء بالإثارة والحركة.
العمل من سيناريو أريل فرومين وساشا بن، وبطولة سكوت إيستوود وتيريس جيبسون وراي ليوتا وديلان أرنولد وأوليج تاكاروف وتوسين موروهونفولا.
يتعمق فيلم “1992” في تصوير التوترات الاقتصادية والاجتماعية التي تولدها العنصرية، تبدأ يعرض نضال ميرسر الذي يسعى جاهدا لإعادة بناء حياته بعد خروجه من السجن، بينما يحاول تحسين علاقته المتوترة مع ابنه أنطوان، وتكشف الأحداث الأسباب التي تحول دون تحقيق شخصيات كثيرة لاستقرارها، موضحة الظروف الاجتماعية القاسية التي تعرقل ذلك.
وتجسد الحبكة الأساسية الانقسام الاجتماعي عبر مشاهد الصراع بين الطبقات والفوارق الصارخة بين الأفراد، إذ يتعرض العديد من الشخصيات للاضطهاد بناء على لون بشرتهم أو أصولهم، وهذه بعض تعقيدات العنصرية وتأثيراتها على المجتمع، بينما تبدو مشاهد التفتيش على الطريق بين ميرسر وابنه كرمز للمعاناة التي يواجهها ذوو البشرة السوداء، وتبرز هذه اللحظات معاملة الشرطة القاسية التي تجسد الواقع المرير لتلك الفترة، خاصة في ظل أجواء الشغب والاحتجاجات التي اندلعت عقب الاعتداء الوحشي على رودني كينغ.
ويوضح الفيلم الأجواء السياسية المشحونة بالتوتر في الولايات المتحدة عام 1992، حيث يتابع تطورات حادثة رودني كينغ وتبرئة الضباط المتهمين، السبب الذي خلق الصراع المتصاعد بين الشرطة والمجتمعات السوداء التي تغلي بالاحتجاجات، كما أن تأثير الأحداث السياسية على الحياة اليومية تسببت في تعليق العمل في المصنع ومحاولات ميرسر لحماية نفسه وابنه من العنف الذي يهدد حياتهما في ظل الوضع السياسي المعقد.
وتتجلى الصراعات النفسية من خلال التوترات الداخلية للشخصيات خاصة أنطوان الابن، حيث يمثل ميرسر الأب نموذجا لصراع داخلي عميق بين رغبته في التخلص من ماضيه المظلم وبدء حياة جديدة، في مواجهة ضغوط البيئة والظروف القاسية التي تحيط به، كما تتسم علاقته بابنه أنطوان بالتوتر والخوف من فقدانه، ما يدفعه إلى السعي المستمر لتحسين وضعهما الاجتماعي والنفسي، بينما شخصية ريجن الذي جسده سكوت إيستود، الذي ينتمي إلى عائلة متمسكة بالجريمة، ليرفع من إيقاع التوترات النفسية التي تعيشها الشخصيات، بين الولاء للعائلة والرغبة العميقة في تغيير الحياة الاجتماعية.
ويعتمد السيناريو على عنصر الواقعية، فينطلق من أحداث تبدو في البداية عادية لتتحول تدريجيا إلى مشاهد مليئة بالتوتر والدمار، فبدأت من الأب ميرسي الذي يخاف على ابنه أنطوان من أن يتحول إلى مجرم عبر تصاعد درامي محموم، فينتقل من لحظة إلى أخرى بنقلات مفاجئة تُشعل الأجواء بالتوتر.
يتنقل المشهد بين متتاليات مشاهد المصنع وصراع الأب وأبنائه لويل وأبنائه المجرمين دينيس وبيجبي، فتتشابك الأقدار بينهم، وتمتاز تلك الصراعات بالحركة السريعة التي تنبض بالحيوية، مع تطور مفاجئ في الحبكة يُبقي المشاهد على أطراف أصابعه طوال الوقت.
ويبرع المخرج أريل فرومين في تقديم مشاهد الحرب الأهلية بين السود والبيض، محققا استنطاقا فنيا دقيقا للمواقف، فيبرز التوترات العرقية والسياسية عبر استخدامه المدروس للقطات، كتلك الصراعات العميقة في صميم المجتمع الأميركي التي التقطت عبر مشاهد مكثفة تُركز على التأثيرات النفسية والعاطفية على الأفراد، فينقل ما تعيشه المجتمعات السوداء من ظلم واضطهاد تحت وطأة السلطة بيضاء البشرة، موضحا كيف تتداخل الضغوط الاجتماعية مع العنف الذي يعصف بأبناء تلك المجتمعات.
ويمتلك فرومين قدرة معقولة في استخدام اللقطات البعيدة والمتوسطة لنقل الإحساس بالمسافة بين الشخصيات وبيئاتهم، فكل لقطة تحمل بعدا دلاليا يعزز معاني الانفصال والتباعد، ففي مشاهد الحرب الأهلية والاضطرابات الاجتماعية، استعمل اللقطات البعيدة لتقديم رؤية شاملة للمناطق الحضرية التي شهدت الاحتجاجات، ليمنح المشاهد شعورا بالتمايز بين الأحداث الجارية داخل المدينة والمشاعر الداخلية للشخصيات، وتعكس هذه اللقطات حالة الانفصال بين المواطنين والمجتمعات المختلفة، ليظهر التباين بين الواقع الاجتماعي والسياسي المعقد وما تعيشه الشخصيات، بينما يستخدم اللقطات المتوسطة لإبراز الشخصيات في لحظات عاطفية وتوترية، ليحفز التفاعل بينها وبين البيئة المحيطة.
وتعتبر اللقطات العامة جزءا مهما من أسلوب فرومين، إذ يستخدمها لعرض المدينة باعتبارها شخصية بحد ذاتها في الفيلم، فتتنقل اللقطات العامة بين أحياء المدينة المزدحمة والشوارع المظلمة، لتبرز تعقيد المشهد الاجتماعي والسياسي، ليفهم المشاهد التوترات العرقية، فتساعد هذه اللقطات في إظهار الحروب النفسية والتوترات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، كما تقدم لمحات من حياة الشارع التي تعكس الواقع المعقد للحرب الأهلية المستمرة بين الأعراق، ليعمق الفهم لواقع الصراع الاجتماعي والسياسي في تلك الحقبة، بينما اختيار الزوايا العالية لتصوير المدينة يمنح المشاهد منظورا شاملا للأحداث، ويبرز الفصل الواضح بين الحياة اليومية العادية والتوترات الحادة التي تعصف بالمجتمع، إذ تمنح الزوايا العالية إحساسا بالاتساع، فتظهر المدينة كأنها محاصرة بين فترات من الهدوء المؤقت والانفجارات المفاجئة من الصراع، وتبين التناقض العميق بين الواقع اليومي وما يخفيه من تحديات ضخمة في العلاقات العرقية والسياسية.
وتتجسد الواقعية في مشاهد السرقة والقتل، كجوانب مظلمة من النفس البشرية، متمثلة في الطمع والرغبة في المال بأيّ ثمن، في واحدة من أبرز اللحظات الواقعية في الفيلم وهي مشهد السارق العجوز الذي يقتل أبناءه وأصدقاءهم من أجل الحصول على الثروة التي يعتقد أنها ستغير مجرى حياته، فتأتي هذه اللحظات لتوضح بشاعة الواقع الاجتماعي، بينما يضطر بعض الأشخاص إلى ارتكاب أبشع الجرائم من أجل البقاء أو لتحقيق طموحاتهم من خلال مشاهد الأثر النفسي والاجتماعي للظروف التي يعيشها هؤلاء الأشخاص، حيث يُبرز التأثير المدمر للضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، فالسارق العجوز الذي يرى في السرقة سبيلا للخلاص من فقره، يتخذ قرارات قاتلة تقلب حياة من حوله رأسا على عقب، إذ تتناغم هذه الواقعية مع الفوضى والتوترات التي تسود المجتمع في ظل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، حيث يصبح العنف والقتل أدوات لحل المشاكل أو تأمين ما يبدو أنه حل سريع ومؤقت.
وأريل فرومين مخرج ومنتج ومؤلف إسرائيلي، درس في جامعة كنت وصقل مهاراته الفنية والإبداعية، ويُعتبر من أبرز الأسماء في السينما الإسرائيلية، وقد قدم العديد من الأعمال المميزة في مجال الإخراج والكتابة، ومن أبرز أفلامه “رجل الجليد” (2012)، و”مجرم” (2016)، و”آخر الشامان” (2016)، و”الملاك” (2018)، التي أكسبته شهرة واسعة وأثبتت قدرته على تقديم أعمال ذات طابع درامي وشيق.