"الفيرمة" تراجيديا مسرحية عن وطن ينخره الفساد السياسي

تونس - لا فنّ دون تمرّد، وهو ما جعل عددا كبيرا من المبدعين والفنانين عبر كل الأزمنة في الصفوف الأولى للثورات ولحركات التغيير الاجتماعي، فالفنان يختزل في أعماله وإبداعه إرادة التحرّر والانعتاق، فهو المحمّل بالقضايا الإنسانية وهو الصدّ المنيع ضدّ كل التقاليد البالية والأنظمة المستبدة، ومن الطبيعي أن يكون المسرح "أب الفنون" اللغة التي تدغدغ العواطف وتستفز العقول وتحاكي الواقع لا فقط الاجتماعي والثقافي بل والسياسي أيضا، على خشبته تطرح الكثير القضايا السياسية ذات الصلة الوثيقة بالهمّ الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، وهو ما يعبر عنه بـ"المسرح السياسي" أو "مسرح التسييس".
ومن المسرحيين المتمردين الذين يطرحون في أعمالهم العديد من الأسئلة الحارقة والكونية للإنسان نجد المسرحي التونسي غازي الزغباني الذي تطرّق في جل أعماله المسرحية الى ما يسمى بالثالوث المحرّم أو المسكوت عنه أو التابو، ونقصد الدين والجنس والسياسة، وكأنه يسعى من خلال مسرحه إلى تحقيق طوباوية نهاية الرداءة والوصول إلى المدينة الفاضلة.
وكعادته كان غازي الزغباني وفيّا لمسرحه الذي عودنا به في مسرحية "الفيرمة" التي شاهدها جمهور تظاهرة "الخروج إلى المسرح" ضمن فعاليات التظاهرة التي اختتمت الأحد في مدينة الثقافة الشاذلي القليبي بتونس العاصمة. "الفيرمة" إنتاج فضاء "الأرتيستو" الثقافي، وتمثيل كل من محمد حسين قريّع وإباء حملي ويسرى الطرابلسي وأسامة غلام وغازي الزغباني الذي تكفل أيضا إلى جانب النص والإخراج بموسيقى العمل، إضاءة وديكور سليم الزغباني.
يأخذنا العمل إلى خمس غرف منفصلة، وخمسة أشخاص، يجتمعون داخل "فيرمة"، يعيشون داخل قوقعة من العزلة الموحشة. تسلط الإضاءة في كل مشهد على غرفة لتكشف لنا ما تحمله من أسرار، حيث يظهر الفنان “مجدي” الشاب الذي يحلم بتحرير كل العصافير من أقفاصها، لكنه مكبّل بالخوف، الخوف من مواجهة المجتمع والنور والسلطة العليا المتمثلة في الأخ المتسلط والعنيف ليجد نفسه رغم حبه للفن والحياة منبطحا ومنوّما ومغيّبا عن واقعه، غرفة أخرى بها الزوجة "فارحة" التي لا تشبه اسمها فما أبعدها عن السعادة، هي الزوجة الخاضعة لسلطة الزوج، المغيّبة عما يدور حولها من أحداث.
الغرفة الثالثة بها "الطيّب" أو العصا الغليظة للسلطة التي تنفذ الأوامر دون تفكير، أما الغرفة الرابعة ففيها "ميساء" الناشطة الحقوقية الرافضة للظلم والفساد والثائرة على الوضع والمتمردة على الواقع السياسي المتعفن. أربع شخصيات تخضع لجبروت "سي لمجد" (الأمجد) أو السلطة القابعة في الغرفة الخامسة، فهو الزوج المتغطرس والأخ العنيف والسيّد المستبد والفاسد والرئيس الظالم والانتهازي. كلها شخصيات تعبر عن فئات كثيرة من مجتمعنا تعيش بيننا ومعنا، فتجعل "الفيرمة" أشبه بالوطن الذي نعيش فيه.
مجدي وميساء وفارحة والطيّب ولمجد هي شخصيات مركبة تعبر عن الأنا والآخر وتروي قضية وطن ينخره الفساد السياسي والأخلاقي وقضية شعب يتوق إلى الحرية والتحرّر والخروج من القفص، قفص الاستبداد والظلم والإهانة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهو ما تجسده نهاية المسرحية بمشهد قتل مجدي للمجد وتحرير ميساء من الدهليز المظلم، “صحيح حررتك أما بعد ما اغتصبوك” بهذه الجملة يسدل الستار على "الفيرمة" الوطن المغتصب.
"الفيرمة" عمل مسرحي يتناول بالأساس قضية الفساد السياسي واستعداد السياسيين لفعل أي شيء مهما كان الثمن من أجل تلميع أسمائهم وتبييض صورهم من خلال سرد قصة رجل ثري ذي نفوذ وتأثير كبير في المشهد السياسي، لمجد يتعرّض لحملة كبيرة من الانتقادات والتشكيك عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي تقودها ميساء الناشطة الحقوقيّة الشابة التي تدير صفحة مشهورة ومُتابَعة بشكل كبير ومختصة في فضح ملفات الفساد، ما يتعارض مع طموحاته السياسيّة ويدفعه إلى تهديدها ومضايقتها حتى يتورّط في اختطافها وإخفائها في ضيعته "الفيرمة".
تحاكي "الفيرمة" على مدار ساعة وعشرين دقيقة الواقع السياسي التونسي، وتقدم نماذج عن شخصيات مرت بالمشهد السياسي منذ ثورة يناير 2011 إلى اليوم، و"الفيرمة" هي أيضا مراوحة بين الأمس والآن والغد، مراوحة عززتها أهميّة المؤثرات الصوتية التي رافقت العمل، حيث أضفت الموسيقى والعزف المباشر مسحة من المصداقية، إضافة إلى الإضاءة التي حاكت تطور الأحداث وتصاعدها.