الفوضى عنوان التغطية الإعلامية للقضايا الإرهابية في تونس

طرحت تغطية الإعلام التونسي لقضية الإرهابيين الخمسة الفارين من السجن جدلية التوفيق بين حرية الإعلام والأمن القومي، حيث وقعت بعض المنصات في أخطاء وارتباكات في عملية نقل الأحداث بلغت حد نشر الإشاعة.
تونس - أعادت حادثة فرار خمسة إرهابيين من سجن المرناقية إلى الواجهة معضلة التغطية الإعلامية للقضايا الأمنية عالية الحساسية وإعلام الأزمات، مع تسجيل نقاط ضعف وأخطاء في التعاطي الإعلامي مع القضايا والذي غالبا ما ينعكس على سير التحقيقات والتطورات الميدانية.
وأثارت قضية الإرهابيين الخمسة جدلا واسعا بشأن تغطية بعض وسائل الإعلام التونسية، حيث تفيد معظم المؤشرات بسقوط بعضها في أخطاء مهنية فضلاً عن تدخل بعض الجهات النافذة في العمل الإعلامي.
وقال الخبير في الدراسات الإستراتيجية والأمن الشامل نورالدين النيفر، الاثنين، إنه “على وسائل الإعلام الانتظار حتى انتهاء عملية تتبع الإرهابيين”، مؤكّدا أنّه يجب أن “تثق وسائل الإعلام في الأجهزة الأمنية وتترك لها الفرصة لإنهاء مهامها”.
وشدد النيفر خلال مداخلة هاتفية مع إذاعة “الجوهرة” المحلية أن “التكتم هو الحل في ملاحقة المجرمين الإرهابيين”، معتبرا أن “الاحتطاب كان وراء عملية السطو على البنك بجهة بومهل”.
وانتشرت التأويلات والتحليلات المختلفة في وسائل الإعلام التونسية بشأن هروب الإرهابيين الخمسة، وتضاربت المعلومات حول وجود تواطؤ من داخل السجن ومؤامرة وشبكات أجنبية، بالإضافة إلى روايات متعددة على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن الهروب وطريقته والحيثيات وملاحقتهم والقبض عليهم، بالإضافة إلى تداول صور ومقاطع في غياب تأكيدات رسمية بهذا الشأن.
ويرى متابعون أن التضليل مبدأ أساسي في الجريمة، ويمكن أن تثير الأخبار المتضاربة في وسائل الإعلام بشأن هروب الإرهابيين والفرضيات المتعددة بلبلة كبيرة.
وقد طرحت بقوة جدلية التوفيق بين حرية الإعلام والأمن القومي، ورأى البعض أن وسائل الإعلام وقعت في أخطاء وإرباك في عملية نقل الأحداث بلغت حد نشر الإشاعة، وهو ما من شأنه أن يهدد حياة المواطنين ويربك سير العملية الأمنية لبلوغ سبق صحفي.
ومن شأن نشر “معلومات حصرية” لم تعلن عنها الجهات الأمنية للإعلام عن قضايا من هذا النوع خصوصا أن السجناء الفارين مصنفون إرهابيين على درجة عالية من الخطورة، أن يكون بمثابة إرسال تحذيرات لهم.
ونادرا ما استخدمت تونس منع النشر في قضايا الرأي العام، إلا في القضايا بالغة الحساسية، كان آخرها في يونيو الماضي عندما قرر القضاء منع التداول الإعلامي السمعي البصري في قضيتي التآمر على أمن الدولة.
وقالت وكالة تونس أفريقيا للأنباء الرسمية إن المتحدثة الرسمية باسم القطب القضائي لمكافحة الإرهاب حنان قداس أكدت أن قاضي التحقيق الأول قرر منع التداول الإعلامي في قضيتي التآمر على أمن الدولة المتعهد بهما.
وأوضحت قداس أن القرار موجه لوسائل الإعلام السمعية والبصرية، و”يرمي إلى الحفاظ على حسن سير الأبحاث وسرية التحقيق وحماية المعطيات الشخصية للأطراف موضوع البحث حسب نص القرار”.
واعتبر متابعون أن قرارات منع النشر في مثل هذه القضايا تمنع انتشار المعلومات التي تفيد الإرهابيين بشأن سير التحقيقات.
وتحيل القضية إلى معضلة شائكة في الإعلام التونسي وهي أن بعض المؤسسات الإعلامية تستخدم “مصادر مجهولة لأجندات خاصة”، بينما يرى خبراء أمنيون أن الحديث عن سرية المصادر في القضايا الإرهابية “ليس له أساس منطقي”.
وسبق أن أثير الجدل عندما تم توقيف صحافي تونسي نشر خبرا حول تفكيك خلية إرهابية بالقيروان ورفض الكشف عن مصادره، ما فتح نقاشات حول “منطقية إبقاء المصادر سرية في القضايا الإرهابية”.
وأوقفت “الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب” الصحافي خليفة القاسمي مراسل إذاعة “موزاييك أف.أم” الخاصة بموجب الفصل 24 من قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال لسنة 2015، حسب ما أفادت به منظمات محلية.
ويقضي القانون في الفقرة الخامسة منه أنه “يعد مرتكبا لجريمة إرهابية كل من يتعمد إفشاء أو توفير أو نشر معلومات مباشرة أو غير مباشرة أو بواسطة أي وسيلة كانت لفائدة تنظيم أو وفاق إرهابي أو لفائدة أشخاص لهم علاقة بالجرائم الإرهابية”.
وتعتبر قضية عدم الكشف عن المصادر الصحفية من القضايا الشائكة في العمل الإعلامي والصحفي في الإعلام العالمي والعربي كافة، وتونس ليست استثناء، ومن آن إلى آخر تطفو على السطح، ولاسيما حينما يتعلق الأمر بمصير أرواح بشرية. ويصارع محترفو الإعلام في كل مكان في العالم القضية الشائكة.
ووفقا لجمعية الصحافيين المحترفين (SPJ)، تكون المصادر المجهولة أحيانا هي المفتاح الوحيد لكشف قصة كبيرة، والكشف عن الفساد وإكمال المهمات الصحفية للمراقبة على الحكومات وإخبار المواطنين، لكن أحيانا تكون المصادر المجهولة هي الطريق إلى مستنقع أخلاقي. وينص ميثاق شرف الفدرالية الدولية للصحافيين على التزام الصحافي باتباع السرية المهنية في ما يتعلق بمصدر المعلومات الذي يطلب عدم إفشائه.
وأقر القانون التونسي حماية لسرية المصادر الصحفية تتماشى مع المعايير الدولية والإقليمية، ولا يمكن انتهاك الحماية إلا تحت رقابة القضاء وفي حالات خاصة تمس في جوهرها السيادة الوطنية أو تشكل خطرا جسيما على السلامة الجسدية للغير مع اشتراط عدم التمكن من الحصول على المعلومة بطرق أخرى.
ويعتقد مراقبون أن “مفهوم حماية حق الصحافيين في الاحتفاظ بأسرار مصادرهم ليس مطلقا لا تحده حدود، وليس دون استثناءات، إذ في بعض الحالات تحتاج المحاكم إلى معرفة هوية مصادر المعلومات حتى يمكن تحقيق العدالة في بعض القضايا المنظورة أمامها، ومهما تكن المصلحة مشروعة إلا أنها يمكن أن تقيد مصلحة أخرى أكثر مشروعية وهي حماية الأرواح”.
حادثة فرار خمسة إرهابيين من سجن تونسي يعيد إلى الواجهة معضلة التغطية الإعلامية للقضايا الأمنية عالية الحساسية وإعلام الأزمات
ووضعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، الحكم التعديلي للمشهد السمعي البصري في تونس، وثيقة مرجعية توجيهية (مهنية أخلاقية) بعد استخلاصات مهنيين وخبراء محليين وأجانب (مكتب بي.بي.سي ميديا أكشن في تونس) وأكاديميين ومؤسسات إعلامية عمومية وخاصة ومكونات مدنية ومختصين أمنيين وعسكريين سمتها الوثيقة التوجيهية حول التغطية الإعلامية خلال فترة الأزمات (الأحداث الإرهابية نموذجا) وتم نشر استخلاصاتها في نهاية أبريل 2016 لتكون ما يشبه “الدستور المهني الأخلاقي الصغير” عند التعاطي مع الأحداث الإرهابية، ولم تتحدث الوثيقة إلا عرضا عن المصادر وفي مناسبة وحيدة فحواها “عند تغطية العمليات الأمنية أثناء الأحداث الإرهابية يستحسن التقيد بما تنشره الجهات الرسمية مع ضرورة التنصيص بوضوح على المصدر”، يعني “مصدر أمني، قضائي، صحي، شهود”. وليس الكشف عن المصدر بالهوية.
وقال الصحافي في التلفزيون الرسمي التونسي فطين حفصية إن “الوثيقة المعتمدة على تجارب مقارنة لم تتحدث إطلاقا عن المصادر، وإن أردنا تكييفا آخر فيمكن القول إن ‘مشرعها’، سهوا أو عمدا، ذهب إلى الأقصى وهو مبدأ حق حماية المصادر الذي تنص عليه قوانين عديدة بل إن بعضها يجرم الإفصاح عنه أصلا وهنا الحديث عن المصادر السرية وليس العادية كحال قانون حرية الصحافة السويدي، ولا أطرح هنا مقارنة مع القانون التونسي”.
وأضاف “أبعد من ذلك، هناك معلومات ينبغي حمايتها وليس المصادر فحسب، وهناك أمثلة يومية يعايشها الزملاء كالمعلومات الشخصية والوثائق والأشرطة التسجيلية والصوتية (…) وسيطرح في أعقاب ذلك السؤال أين الخيط الرفيع بين المصدر السري والمصلحة العامة؟ الإجابة بسيطة وواضحة أيضا: ينبغي هنا الموازنة التقديرية بين الصحافي والمصلحة عبر قناة واضحة وجهة وحيدة (قضائية) وليست جهات (مؤسسة إعلامية، تعديلية، أمنية وقضائية ومجتمعية أو أشخاص لا مصلحة لهم..) أو ضغوط عبر منافذ قانونية زجرية وبالتالي تقييد جهة الإفصاح ما أمكن، إن وجدت أصلا، وإلا عدنا إلى غابة الفوضى في المصادر والأخبار التي تابعناها في عدة قضايا منذ 2012، وتم إجهاض قاعدة أن الكشف عن المصادر لا يعني تقويض الثقة في الصحافي ومؤسسته فحسب بل ثقة المجتمع بالصحافيين ككل”.