الفن حركة جماعية أو لا يكون

محمد ناصر المولهي
كثيرة هي الندوات التي قدمها لقاء مارس بعنوان “تواشجات”، والذي نظمته مؤسسة الشارقة للفنون من واحد إلى ثلاثة مارس 2024 بالشارقة، وحضره طيف واسع من الفنانين والباحثين والكتاب والفاعلين الثقافيين.
المواضيع وإن تنوعت فإنها كانت في أغلبها تصب في توجه يحرر الفن من المتحفية والجماليات المكررة، ويذهب إلى استقصاء أدواره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما تستجلي دوره المقاوم لكل أشكال الكراهية والعنف والاحتلال والعبودية، في تركيز على فكرة هامة للغاية هي أن الفن عمل جماعي.
الفن عمل فردي نعم. لم يعد الفنانون المعاصرون يحتاجون إلى روابط أو جماعات فنية كما صرحت الفنانة الفلسطينية فيرا تماري، لكنه في جوهر تحركه جماعي بالضرورة.
يحتاج الفن اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن يكون جماعيا، أن يلعب تلك المزاوجة الخطيرة والممتعة بين الفردية والجماعية، إذ الحركة الفنية تتطلب تضافر الجهود، كما تتطلب توجها واعيا ومتوازنا تدخل فيه حتى عناصر من خارج العمل الفني، مثل الظروف السياسية وسياسات الأسواق والإعلام وتقييم والعرض وغيرها.
كلنا شاهدنا لوحات الفنانين الفلسطينيين مثلا، وأشدنا بالتجدد الكبير الذي طبع تجارب رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، لكننا كنا نجهل ما وراء ذلك من توجه جماعي، يحكمه التآزر والاندفاع ووحدة المبدأ التحرري رغم اختلاف الوسائل والطرق. نجهل أيضا كيف يمكن للفنان الفلسطيني أن يرسم؟ من أين يأتي بالخامات في بلده المحاصر؟ وغيرها من أسئلة ملحة عن التحديات التي يعرفها الفنانون.
التحديات لا تقف عند الاحتلال، بل هناك تحديات مادية صعبة وأخرى طبيعية مثل الزلازل وغيرها، وأخرى اجتماعية بما أن الفن ليس بالضرورة شعبيا، وإن كان شعبيا فإن في ذلك خطرا على حريته، ونفس الشيء إذا كان مرتهنا للسوق ما يخلق داخله بذرة فساده وانتهاء دوره التحرري الأساسي.
كما كان اللقاء فرصة لمعرفة التوجهات الفكرية الهامة للفن المعاصر خاصة منها النسوية التي تحيطها الكثير من المغالطات، وقد تم تنزيلها في أطر تحفر بعمق في تاريخ الحراك الفني النسوي وعلاقته بالسياسة، وهو ما يمثل قراءة مختلفة تعيد للحراك الفني النسوي قضاياه الإنسانية المحورية وتخلصه من الملصقات المفرغة التي يحاول بعضهم وحتى بعضهن إلصاقها به.
الفن حركة جماعية، نستشف هذا أيضا في ما قدم من مداخلات حول دور الفن في نبذ كراهية الآخر المختلف وخاصة طالبي اللجوء، حيث الفن يمثل قدرة هائلة على نسج الوعي الجمعي، كما أنه الوسيلة التي يستضيء بها الإنسان كلما أظلم العالم من حوله بغبار الحروب والاستبداد والاستعباد والهيمنة والاحتلال والدمار وغيرها مما يقهر البشر ويدمر ثقافاتهم ويفرغهم من هوياتهم.
الحركات الفنية إذن مطالبة بالعمل أكثر من أي وقت مضى لأجل تخليص الفن نفسه من قيود السوق، وجعله متيقظا دائما للقضايا الإنسانية العادلة أينما كانت في فلسطين أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو آسيا أو غيرها.
من ناحية أخرى تسهم هذه الحركية الجماعية الواعية في خلق سبل تمويل وحركية اقتصادية لا تخضع بشكل فاضح للهيمنة السياسية أو المالية أو حتى الاجتماعية.
كان اللقاء فرصة لنقاش حر حول الأحداث الراهنة وخاصة ما تشهده غزة من حرب إبادة، ولم تكن التدخلات من قبيل البكائيات والشكوى والاستعراض، بل كانت فضحا لممارسات الديمقراطيات الغربية التي تؤكد يوما بعد يوم، سواء في حرب أوكرانيا وروسيا أو ما تتعرض له غزة، أنها تعتمد الكيل بمكيالين، وما المبادئ الحقوقية إلا شعارات.
لو كان لي أن أخرج بجملة نافذة أستضيء بها من اللقاءات، التي قدمتها نخبة من الفنانين والكتاب العالميين، فستكون “الفن فعل فردي في حراك جماعي، والفن هو التفاعل بين ذات الفنان والذوات الأخرى بالضرورة، أو يكون مجرد مونولوجات”.