الفن جدل خلاق بين المرئي واللامرئي

في كتاب بعنوان “مخاتلة الفن المعاصر” صدر سنة 2016 بباريس، تحدث الفنان والمفكر الفرنسي أود دوكيروس عن تعرية لغز قيمة الفن المعاصر بالتزامن مع انهيار بنك ليمان برادرز التجاري في 15 سبتمبر 2008 بنيويورك، حيث بدت للعيان، في تلك اللحظة الاستثنائية من الزمن الراهن، المفارقة الناهضة بين ماهية المنتج المالي وقيمته التداولية في السوق؛ على نحو كاشف لتناقض جوهر ومكانة أعمال الفن المعاصر في السوق. الأعمال التي ليست شيئا آخر إلا افتراضا رمزيا لقيمة غير متحققة في الواقع لتكوينات مجازية.
في هذا الكتاب سيتم التركيز بشكل كبير على ماهية “غير المرئي” في الفن المعاصر، المحجوب أو الموعود به، والذي يترجم تلك المخاتلة الدائمة لجماليات لم تستقر على قواعد ولا تحديدات، من شأنها أن تصطنع لـ”النفيس” ولـ”عديم القيمة” معايير واضحة. وهو الافتراض الذي يفسر اطراد مراوحة معروضات الأروقة والمتاحف المعنية بمنجزات هذا الفن بين خارطة آراء ملتبسة غير متجانسة، ولا تعطي انطباعا مطمئنا لجامعي التحف الفنية، والمستثمرين في الفن.
في هذا الكتاب يمكن أن نسترشد معالم الطريق لما يمكن وسمه بـ”مفارقات التوصيف النقدي للفن المعاصر”، والذي من شأنه أن يقدم أطروحات بصدد العمق الرؤيوي للتنصيبات وأعمال الفيديو والمنحوتات المعاصرة، في الآن ذاته الذي باستطاعته أن ينسفها من أساسها، وألا يفترض أي جدوى لها.
أستحضر بصدد هذا التناول عمل الفنانة السويسرية سيلفي هينروتين فلوري الموسوم بـ”عربة التسوق”، وقد كان حصيلة اشتغال طويل لصاحبته على النزعة الاستهلاكية في المحال التجارية الكبرى، العمل عبارة عن عربة مطلية باللون الذهبي، وضعت على قاعدة معدنية دائرية في أرضية صالة العرض بمتحف “تيل” بمدينة ليفربول؛ وقد لقي العمل ثناء من قبل بعض النقاد.
واعتبر مؤرخ الفن جوليان ستالابراس، في كتابه عن “الفن المعاصر”، أن العمل يصور “تضاؤل أهمية قيمة الانتفاع المادية للسلع، حيث يصير الاستهلاك متعة بديلة للوجاهة الاجتماعية، وحيث يبدو، في النهاية، أن السمة السلعية للمواد الاستهلاكية تختفي تماما. إنها محاكاة تهكمية للوهم الجمالي”
(ص 62). وفي مقابل هذا التحليل المتعاطف، لاقى العمل هجوما من عدد غير هيّن من النقاد الألمان، معتبرين الأمر إيغالا في الرهان على الصدمة، بسقط المتاع، وبالجاهز الصناعي.
وغير خاف أن سؤال المفارقة الممتد من القيمة المالية إلى الجوهر الجمالي، ينهض في العمق على عدم إمكانية الاستقرار على وجهة نظر نقدية واحدة، بالنظر لغياب قاعدة يمكن الرجوع إليها، وسيفرز الرصيد المتفاقم لأشكال التعبير الفني المستحدث، والممتد من الحسي الثابت إلى الأدائي المؤقت، مدونة من التعابير والخطابات النقدية التي يمكن أن تثبت الأطروحة ونقيضها، بحيث يسهل الاطمئنان بقدر كبير من اليقين إلى أن العمل المعروض في رواق للفن المعاصر هو صنيعة نخبة متضامنة من الوسطاء المنحازين، الذين لا يضيرهم أن تكتب عشرات المقالات في الصحف العالمية منددة باختيارهم، ومعتبرة إياه دجلا واضحا، إذ في المقابل ستنشر مئات المقالات المناصرة للعرض البصري، الساعية لإكسابه شرعية نقدية وفلسفية.
قبل ثلاث سنوات صدر للباحثيْن الفرنسيين ألان ترويا وفاليري آرول كتاب بعنوان “عن نرجسية الفن المعاصر” وعبر فصوله المتوالية سعى الباحثان إلى إثبات ارتكاز الممارسات الفنية التي يتم تقديرها اليوم على “قلب السلوكيات والقناعات في انحدار نرجسي يتخطى المحظورات اللازمة لبناء الذات والحياة في المجتمع. وأصبحت كل التعاليم الحضارية عقبات لا تُحتمل أمام الخلق الموغل في الذاتية والنسبية والعفوية”؛ وطفا، شيئا فشيئا، على السطح إنكار جذري للقواعد والتقاليد ومعايير الحكم، التي يستمد منها الفن المثاليات الإنسانية في بعدها الحداثي.
يندرج هذا الكتاب ضمن سياق انتقادي متفاقم في أوروبا والولايات المتحدة اليوم، للممارسات التلفيقية في الفن، التي تعتبر كل شيء ممكنا، شأنه شأن كتاب أود دوكيروس عن “مخاتلة الفن المعاصر”، (الذي أشرنا إليه في بداية المقال)، هي أطروحات شارحة للوضع الفصامي المعقد، والمفسر للتناقض النقدي المواكب، المأزوم والمنطوي على قناعات ملتبسة؛ أنتجت من ضمن ما أنتجت شكلانية جديدة شبيهة بتلك التي أدت إلى انتشار النهج البنيوي (المدرسي) مطلع القرن الماضي في حقول الأدب.
والشيء الأكيد أن التوصيف النقدي للأعمال الفنية المعاصرة له عمق تأويلي، متصل بطبيعة الجدل بين المرئي واللامرئي في العمل الفني، توصيف يركب المعنى أو يتمحّله، وهي السمة التي تتعارض مع المنزع الشكلاني في الظاهر، بيد أن الشكلانية هنا تكمن في ارتهان التحليل النقدي لجماليات رخوة وغير راسخة، بحيث يمكن أن يتماثل في التحليل، العمل الفني ونقيضه.
يحلو لي أن أستدعي لبيان القصد هنا كيف ساهمت الشعريات البنيوية، في تخطي قاعدة الحكم على العمل والاكتفاء بالتحليل، الذي قد ينتهي في لحظة ما إلى جعل قصيدة لبول فاليري تتماثل في القيمة مع قصيدة نثر مرتجلة، ووضع رواية من واقعية القرن التاسع عشر في فرنسا على قدم المساواة مع رواية مغامرات أميركية.