الفن المعاصر يحول العالم كاملا إلى جزر ومتحف عائم

طنجة (المغرب)- قدم الشاعر والباحث في الجماليات المغربي عزالدين بوركة كتابه التحليلي الفني “الحساسيات البصرية المفرطة، مفاهيم الفن العائم” الذي يحاول من خلاله تقديم مقاربة أو مداخل إلى الفن المعاصر. ويسعى بوركة في مؤلفه إلى الإمساك بالمفاهيم الفنية المعاصرة التي يصفها بأنها “طافية وعائمة لا ترسو على أرض ثابتة وصلبة”.
اليوم بتنا نحيا في عصر سائل، كل المفاهيم فيه تعد زلقة وصعبة القبض والضبط. أو مثلما يخبرنا صاحب الكتاب “لا يقين مع الفن المعاصر، فهو فن الشك والارتياب، لا يقدم بدائل ولا يعطي حلولا جاهزة، بل يجعلنا نرى ونشاهد ونلحظ لنُعلق ونتجادل.. إذ أنه نتاج المشاهدة والخطابات المصاحبة وردود الأفعال التي تلي عملية العرض. وإن كانت الفنون السابقة تطمح إلى الإجابة عن أسئلة الإنسان الكبرى، وتسعى إلى تهذيب الذوق وبناء الفرد الحداثي”.
لن يتوقف الفن المعاصر عن إثارة الجدل. وهذا مطلوب، وهذا ما نجح في أن يفتح الفن على قراءات متعددة ومتخلصة من المعايير الراسخة إلى تجريب فكري وجمالي مفتوح. لكن هذا التجريب، على أهميته، يخفي نقصا في فهم مداخل هذا الفن لكي لا يتحول إلى انفعالات لاواعية.
ويرى الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين أنه من السمات المميزة اليوم للمقصود بالفن المعاصر تلك التي تقرنه بتخطي المهارة إلى امتلاك خيال بصري يصطنع للفكرة مقابلا صوريا، خالبا وإشكاليا وصادما في آن.
ويضيف “لا يهم في هذا السياق أن يكون الفنان حاذقا في صناعة ‘الشيء‘ المعروض، الذي يمثل الكشف المفهومي والمعنوي، البليغ والمدهش، فالأهم هو هندسة الفكرة، والقدرة على تمثل صيغتها الحسية”.
وفي الفن المعاصر الذي يتهم عادة بالافتقاد للشرعية، (بتعبير مارك جيمينيز نفسه)، بالنظر إلى “استساغة السهولة، وإنتاج أي شيء كان، مع تفضيل الصيت الإعلامي على الإنجاز الفني”، وهذا ما يتصدى له الكتاب بالتأسيس لحالة وعي بالاشتغالات الفنية وفتح آفاق الوعي الفني من خلال تأطير المفاهيم وطرق تحولاتها، مستفيدا من الفلسفة وتاريخ الفن ومنفتحا على واقع مغاير لا ينفك يتحول اليوم في ظل الذكاء الاصطناعي.
من هنا فإن كتاب بوركة يدخل أرضا صعبة الجغرافيا، أو هي أقرب إلى بحر متغير لا يمكن فيه التحديد النهائي لمفهوم صلب، بقدر ما يمكن الإمساك بمفاهيم وإعادة إطلاقها في عوالم الفن المعاصر الحرة والفردية المتمردة على كل تاريخ الفن.
في تصديره للكتاب يقول الأكاديمي والباحث في الجماليات المعاصرة محمد الشيكر “الإشكال مدار هذا العمل البحثي الماتع، ففيه يشرعنا الأستاذ الباحث عزالدين بوركة، على الكارتوغرافيا الجمالية الجديدة التي دشنها الفن المعاصر، ويقودنا برشاقة وأناقة في مساربها المثيرة والمحملة بالأسئلة السجالية. ويقدم، بحق، منجزا يستحق الإشادة والاحتفاء”.
بينما يتحدث عزالدين بوركة عمّا سمّاه بالمفاهيم العائمة قائلا “الفن بمفاهيمه لم يسلم من التغيرات الجوهرية التي مست باقي الأنظمة والأنساق الإنسانية، حيث تحول بدوره من حالة صلبة متماسكة، تستند فيها كل التوجهات على قواعد معروفة وملموسة، وتنتعش في أراض ذات سيادة كاملة، من الصعب أن تتواصل في ما بينها، إذ لكل أرض حدودها وأسوارها العالية التي يصعب اختراقها، إلى حالة من السيولة والذوبان المستمر، كل شيء فيه يطفو عائما، مثل جزر متفرقة، غير أنها متصلة رغم انفصالها عبر جذمور خفي، ورابط لامرئي. وهي تعمل منفصلة عن بعضها البعض ومتصلة في الآن نفسه، فالفن المعاصر هو فن التزامن.. فن تتداخل تياراته مع بعضها البعض لتولد تيارات جديدة، وفي الوقت عينه فهي معزولة، لكن دون أسوار”.
ويضيف بوركة قائلا “يجعل الفن المعاصر العالم كاملا متحفا عائما، ‘ينحته الفنان‘، بتعبير جوزيف بويس، ليصنع منه أعماله الفنية أو يجعله في حد ذاته عملا فنيا. إذ أن الفن ‘طريقة لصنع العالم‘. فكل شيء بات قابلا أن يصير غرضا فنيا، بل اللاشيء في حد ذاته غرض فني. وفي ظل حالة التبخر هذه، لم يعد العمل الفني مقيما في الغرض المادي بالضرورة؛ عكس الفنون السابقة التي استندت إلى مادية المنجز، فالفنون المعاصرة اليوم توجد في الفكرة والمفهوم وخاضعة لعملية التذويب والتبخير المستمريْن”.
يذكر أن الكتاب من الحجم المتوسط، ويمتد على طول 270 صفحة، وقد صدر مؤخرا عن دار أكورا بطنجة، وفيه يُقارب الباحث عزالدين بوركة عبر أسلوب تحليلي، وعبر نماذج غربية وعربية وعالمية، مفاهيم الفن المعاصر، متوقفا عن أهم التقاءات هذا البراديغم بمجموعة من الفلسفات والتيارات والتوجهات والمواضيع الراهنة، منذ نشأته وصولا إلى عصر الذكاء الاصطناعي.
