الفن التشكيلي استثمار من نوع آخر

تشكّل الثقافة الفنية البصرية إحدى ركائز التواصل الفكري بين المجتمعات الإنسانية على وجه العموم، وسلطنة عُمان ليست بمنأى عن خصوصية ذلك التواصل. إذ تفرض الساحة الثقافية وجودها في تشكيل تلك الركائز التي طالما أوجدت مساحة مهمة لمعرفة الفنون بشتى أنواعها، بما فيها البصرية التشكيلية. لكن تبقى علاقة الفنان بالمتلقي مثار تساؤل خاصة من حيث اقتناء الأعمال الفنية.
مسقط – ثمة ثقافة عامة لاقتناء الأعمال البصرية التشكيلية في سلطنة عُمان، ولكن واقع الحال يطرح الكثير من التساؤلات والمتمثلة في ثقافة اقتناء الأعمال التشكيلية وإن كانت تسير في مجال الاستثمار في الفن أم أنها لمجرد الاقتناء الذاتي؟ وهل حققت طموح الفنان من الاقتناء في كلا الحالتين؟
يطرح الفنان عيسى المفرجي رؤيته الخاصة، فيقول “من الملاحظ في مجتمعنا أن هناك إدراكا بأهمية الفن وباقتناء الأعمال الفنية وتزايد صالات الفنون والأنشطة الفنية ولكن بمستوى نسبي. وفي اعتقادي إن السبب في ذلك يعود إلى كوننا في بداية الطريق في هذا الجانب وهو أيضا مرتبط بالوضع الاقتصادي لكل بلد وقلة الاقتناء في المعارض الفنية مؤشر على ذلك، ومع ذلك يوجد هناك عدد من المهتمين باقتناء الأعمال الفنية ولديهم المعرفة بأهميتها الثقافية والحضارية وبأهميتها كجزء له قيمته الحضارية والمادية في المستقبل”.

مقتنو الأعمال التشكيلية العُمانيون يقتنون غالبا صورا شخصية أو مناظر طبيعية محددة بناء على طلبهم أو أذواقهم
ترف وكماليات
يوضح المفرجي قائلا “ربما الاقتناء الذاتي والمستمر قد يقود إلى نشاط وفهم مختلف لأهمية العمل الفني وبمعرفة المقتني بالقيمة الاستثمارية والمادية مع تزايد الاهتمام بالاستثمار في الأعمال الفنية في المنطقة واعتباره جزءا من أصول أو ممتلكات لها قيمتها المادية ترتفع مع مرور الزمن، مما يسهم في نشاط هذا القطاع ودخول الشركات الاستثمارية والمصارف فيه باقتناء الأعمال الفنية واعتبارها جزءا من الأصول لها، وبالتالي يسهم ذلك بشكل كبير في النشاط الاستثماري وتشجيع المستثمر المستقل على الدخول في هذا الجانب ويساعد في نشاط الحراك الفني وهذا ما تقوم به دول المنطقة، وكفنانين مهتمين بحركة النشاط الفني علينا تعريف المجتمع بأهمية العمل الفني فكريا وثقافيا لنساعد بدورنا في تعزيز مفهوم وثقافة اقتناء العمل الفني لتشجيع الفنان على زيادة إنتاجه الفني وإبداعه الفكري محليا ودوليا”.
قد لا تبتعد الفنانة أنعام أحمد كثيرا عمّا أشار إليه الفنان المفرجي، وهنا تقول في شأن ثقافة الاقتناء “تُعد ثقافة اقتناء الأعمال الفنية من هوايات النخبة مثلما يقال، رغم أنها باتت ظاهرة كبيرة وآخذة في التوسع، يلجأ إليها الكثير من متذوقي الفن والمقتدرين عالميًّا، ولكن محليًّا هذه الثقافة ليست رائجة عند البعض بسبب غياب الثقافة الفنية التي يعدّها البعض ترفا أو من الكماليات”.
وتضيف “إذا نظرنا إلى الثقافة الشعبية السائدة لدينا وتمثل الأغلبية، فهم لا يأبهون باقتناء الأعمال الفنية، ولا تعنيهم أن تكون هناك لوحة لفنان عُماني معلقة على جدران بيوتهم وربما تعود هذه الظاهرة لعدة أسباب منها الأزمة المالية العالمية التي تسببت في الكثير من الإشكالات وما سببته جائحة كورونا، ودخل الفرد، جميعها تعتبر أسبابا قوية جدا لعدم تمكن الأفراد من اقتناء الأعمال الفنية، لكن في المقابل هناك بعض من المقتنين المعروفين على المستوى المحلي، يحرصون على اقتناء الأعمال الفنية، نظرا إلى اهتمامهم بهذا المجال، كما أن البعض يقتني من أجل الإهداء، وهناك من يقتني لمجرد أن تكون لديه تشكيلة من الأعمال الفنية الأصلية والأصيلة”.
وتطرح الفنانة رؤيتها الخاصة بقولها “أرى أن قطاع الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة والرياضة والشباب يجب أن يشكل لجنة دائمة تُعنى باقتناء الأعمال الفنية من الفنانين التشكيليين المحليين على معايير وأُسس احترافية، وأن تقوم بتشجيع ثقافة الاقتناء لأن ذلك يعود بالنفع على الدولة والمؤسسات والفنان”.
من جانبه يبرز الفنان أدهم الفارسي رأيه حول ما يتعلق بثقافة اقتناء الأعمال التشكيلية سواء لمجرد الاستثمار أو الاقتناء الذاتي، وهنا يوضح “قد تتفاوت تجارب الفنانين العمانيين بخصوص الموضوع، فمن الملاحظ أن هناك عددا من الفنانين يجتهد ذاتيا أو من خلال المعارف أو بعض المؤسسات للترويج عن أعمالهم الفنية ومنهم من يعرض أعماله للبيع من خلال المعارض الرسمية التي تنظمها المؤسسات الرسمية للفنون التشكيلية”.
الفن التشكيلي أكبر من مجرد سلعة، هو إرث ثقافي يستمر إلى العصور القادمة ويبلغها رسائل الماضي والحاضر
ويضيف “من خلال ملاحظاتي وتجاربي الشخصية، بشكل عام فإن ثقافة الاقتناء للأعمال الفنية في سلطنة عُمان تكاد تكون غير ملموسة وقد يكون هناك عدد بسيط من يقتني الأعمال الفنية بأسعار رمزية مقارنة ببعض الدول الأخرى، كما أن الرؤية لا تبدو واضحة عما إذا يقوم هؤلاء بالاقتناء من أجل الاستثمار أم الاقتناء الذاتي الأمر الذي يتطلب استبيانا موجها لمقتني الأعمال التشكيلية لتقييم الوضع، ولكن في تصوري فإن معظم مقتني الأعمال التشكيلية يقتنون غالبا صورا شخصية أو مناظر طبيعية محدّدة بناء على طلبهم أو أذواقهم الشخصية”.
ويشير إلى أنه على سبيل المثال يرى أن الاقتناء الاستثماري ينقسم إلى اقتناء استثماري مباشر ويتمثل في تداول الأعمال التشكيلية كمنتج يتم بيعه أكثر من مرة، وغير مباشر وهو مثلا شراء بعض المنشآت الفندقية لبعض الأعمال وإضافتها كجزء من تصميمها الداخلي وبالتالي إيجاد جو خاص قد يجذب بعض الزبائن بطريقة غير مباشرة وبالتالي يكسب صاحب المنشأة بطريقة غير مباشرة.
ويقول إن “الاقتناء الاستثماري يتطلب وجود عرض وطلب بناء على الاحتياجات وأما الاقتناء الذاتي فيتطلب وجود ثقافة وتقدير وفهم في المجتمع لأعمال الفن التشكيلي أكثر من مجرد فكرة اقتناء أعمال تحمل صورا شخصية أو طبيعية، فالفن التشكيلي هو أكبر من مجرد سلعة بل هو إرث ثقافي سيستمر إلى العصور القادمة ووسيلة لإيصال رسائل إلى المستقبل عن الماضي والحاضر وخيال المستقبل والأهم أن يكون من خلال لوحات أبناء الوطن ليدلّ على أن المجتمع العُماني كان ولا يزال متميزا في مهاراته المختلفة”.
قيمة الفن مختلفة

تقترب الفنانة بشرى الزهيمية برأيها من هذا الطرح الفني لتشير إلى أن العماني يمتلك بدواخله إحساسا مرهفا وشاعريا وصاحب ذائقة جميلة وذكية في الوقت نفسه يستطيع قراءة المشهد الفني ويبحر في عوالم الألوان التي تهدي النفس البشرية طمأنينة ونقاء وسموّا، وهذا ما يؤكد أن ثقافة اقتناء الأعمال التشكيلية في سلطنة عُمان حاضرة وموجودة ولكن هناك فريق من الناس يسخّرها في مجال الاستثمار وفريق آخر يقتنيها للاقتناء الذاتي، وتعد هذه الظاهرة صحّية تخدم الفنان التشكيلي وتعزز من ثقافة المتلقي في كيفية استخدام هذه الأعمال في الخانة التي تخدم مصلحته كيف ما كانت.
وتقول الزهيمية “إن الفن التشكيلي يعتبر رافدا وداعما للاقتصاد الوطني والفنان التشكيلي لا بد أن يكون واعيا بقدر كبير بالمجال الذي يعمل به، فكيفية تسويقه لأعماله الفنية أثناء إقامة المعارض وتسعيره للأعمال الفنية وجذب الجمهور المقتني للعمل وتعزيز الجانب السياحي، نجده قد وظّف مهاراته الفنية في جانب اقتصادي سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الوطني فقيمة العمل الفني تعود لقيمة الحضارة التي يوجد فيها، العمل الفني قيمته مختلفة تماما، فهو مرتبط بتاريخ الفنان وظروفه وخبراته، فتقدير القادة وأصحاب السمو والذائقة الفنية لأعمال الفنان التشكيلي يرفع من مستوى قبول وتلقي المجتمع”.
وفي السياق ذاته يشير الفنان فهد المعمري إلى أن الاقتناء كمفهوم عام ومدى تطوره تدريجيا إلى أن أصبحت أرقام الاقتناء عند بعض الدول تشكّل هاجسا وحدسا يدعو للدهشة، لذا نجد أن المجتمعات الغربية هي من تتصدر المشهد وتعتليه بسبب ظهور المدارس الفنية بشتى أنواعها وتأثيرها البصري بشكل مباشر للمجتمع، فحينما ظهرت الكلاسيكية بكامل عنفوانيتها سحرت الملوك والنبلاء في أوروبا وأرغمتهم على احتواء الفنان وأعماله الفنية واقتنائها أيا كانت قيمتها.
ويضيف “من هذا الأساس يتهافت المجتمع والمقتنون على أعمال الفنانين بتنوع المدارس الفنية وتنوع الأذواق فأصبح هذا الهاجس منتشرا بصورة واضحة في المنازل والأماكن المقدسة اعتزازا وافتخارا لما وصل إليه الفنان من فكر ورقي في إظهار إمكانيته ومهاراته العالية، ولكن وصلت هذه الثقافة إلى المجتمعات العربية بشكل خجول إلى حدّ ما لأسباب كثيرة سنتعرض لها كل بشكل مبسّط منها ثقافة الديكورات التي لم تكن سائدة بشكل واسع في مجتمعاتنا”.

ويفنّد المعمري حديثه في هذا الشأن “في ما يخص ثقافة الاقتناء في مجتمعنا فالأسباب التي ذكرتها سابقا تجعل من هذا المفهوم مفهوما ضعيفا وغير منتشر بالصورة التي نطمح لها كفنانين عُمانيين، فهذا الجانب يطوّر ويدعم إمكانية الفنان ويزيد من إنتاجيته بجانب استمتاعه في إنتاج الأعمال الفنية وبلا شك هناك أسباب إضافة إلى الأسباب المذكورة سابقا وهي غياب المزادات الخاصة للأعمال الفنية والمتاحف المتخصصة لبيع وتسويق الأعمال الفنية وزيادة الوعي الثقافي لدى المجتمع بصورة واسعة وشاملة”.
ويختم “ما شاهدته وألتمسه في المجتمع هو فقط مسألة اقتناء لا أكثر أو تعامل وتعاون مع جهات لتغطية حدث فني بواسطة الأعمال الفنية وتنتهي القصة. فلا بد من استثمار الفن بشكل حقيقي وتوظيفه حتى في الشارع العام والمجتمع ويأتي ذلك من خلال الاهتمام بإمكانية الفنان والاهتمام بأعماله وتصويرها وتسويقها وإعطائها بعدا أكثر من إطار اللوحة، فقد أصبحت اللوحات عالمية تترجم إلى جسور وشوارع ولافتات وفي السيارات وتمتد إلى العمارة بشتى أنواعها فهنا الاستثمار الحقيقي فعليا للفن ومضامينه”..