الفن أولا في مدينة لا تشيخ

مثلما لنيويورك جاداتها وشوارعها وأبراجها وساحاتها وحدائقها وجسورها وملاعبها وأسواقها فإن لها متاحفها الصغيرة والكبيرة، القديمة والجديدة. عالمان، الأول فضاء عام تغزوه الشمس بأشعتها ويملأه المطر مرحا والثاني خاص مهما اتسع يضيئه الخيال البشري بفكره وحساسيته وشجاعته وتمرده وقوة بلاغته.
هناك متاحف في نيويورك لا يمكن لمَن يهتم بالفن إلا أن يزورها؛ متحف غوغنهايم المبني على شكل ملوية مقلوبة ومتحف الفن الحديث “موما” ومتحف متروبليتان. ولأن نيويورك مدينة سياحية بمزاج خاص، فهي جاذبة وطاردة في الوقت نفسه على الرغم من أن الأميركان أنفسهم أفضل على مستوى التعامل المباشر من الأوروبيين، فإنها تظل مدينة شابة.
معظم زوار متاحفها الفنية، وهي الأماكن التي أزورها، شباب. مدينة شابة لا تشيخ. ليس لها عادات ثابتة ولا أوقات محددة لتناول الطعام وإن كان الأكل بين يديها يُكره المرء على إنكار عاداته. ليس لديها ما تقدمه سوى الـ”همبرغر”. وليس للـ”همبرغر” وصفة واحدة. هناك ما هو رخيص الثمن وما هو غال. ولكن ذلك ليس المقياس الوحيد للجودة.
يمكنك أن ترى ماكدونالد في كل مكان. تتعثر به. في المقابل هناك مطاعم صينية وكورية ومكسيكية يلعق المرء أصابعه بعد تناول وجباتها. بالصدفة اهتديت إلى مطعم مكسيكي تديره عائلة. ما ألذ الطعام الذي يطبخونه. وصفات غذائية لم أفهم مكوناتها في المرات الأولى ولكنني فيما بعد استوعبت شيئا من فلسفة المطبخ المكسيكي. من المؤكد أن نوع الطعام يؤثر على طريقة التفكير.
الذهاب إلى أحد متاحف الفن هو أشبه بمحاولة إنقاذ من العبثية التي يمكن أن يقع فيها المرء لو أنه استثمر طاقته الروحية في التفكير في حرب المطابخ التي تذكر بحرب التوابل التي اشتعلت بين البرتغال وهولندا في القرن السابع عشر. الفن ينقذ من أشياء كثيرة بعضها سيء للغاية كما هو الحال مع ماكدونالد وأشباهه. وعلى المرء ألا يكون غريبا في نيويورك.
عليه أن يكون مواطنا كونيا لكي يتصالح مع وجوده في هذه المدينة الكونية. إنها مدينة ليست لأحد. في متاحف الفن تتجسد تلك الفكرة. شخصيا لا أحب سوى متاحف الفن. ونيويورك متخصصة في اختراع مثل تلك المتاحف. في نهايات أربعينات القرن العشرين غزت أميركا العالم بالفن الأميركي من خلال مدرسة فنية أُطلق عليها اسم “التجريدية التعبيرية”.
كانت الحرب الباردة هي حاضنة ذلك التحول. حين دخلت إلى متحف موما فوجئت بأن لوحات أرشيل غوركي، وهو أرمني – أميركي، قد وُضعت في الاستقبال. قبل سيزان وبيكاسو وماتيس وهنري روسو وماكس بيكمان وكوكوشكا وغوستاف كليمت عليك أن تنحني أولاً أمام لوحات غوركي. هكذا تكون أميركا أولا.