الفنان إبراهيم برغود لـ"العرب": أعمالي تخترق جدران القلوب وليست للزينة

كبر الفنان السوري إبراهيم برغود وهو يخلق من المواد المنتشرة حوله منحوتات يتخذها لعبا له، وحين كبر سخر تجربته الفنية لتأريخ الواقع ولبعث رسائل يؤمن بها تاركا للمتلقي مساحة حرة لتحليل اللوحة وفهمها بناء على حصيلته الثقافية والمعرفية.
عشق الرسم وتعلمه في سنّ مبكرة جدا، هوايته التي طغت على أي هواية أخرى، وما يقع بين يديه طالما يُطوّعه إلى لوحة فنية لاسيما في طفولته، ومع بداية نشأته كان يفتقد للألعاب أسوة بغيره من أبناء جيله، تلك الألعاب التي نجدها اليوم متوافرة وبكثرة بين أيدي الأطفال، فضلا عن استعماله وتطويعه الأسلاك المعدنية التي كان يستخدمها مع بداية عشقه لهذا الفن مع ما يروقه من صناعات تستهويه، مثل العربات التي تجرّها الخيول، ناهيك عن صناعة الحافلات والسيارات والبيوت الحديثة.
هكذا كانت طفولة الفنان التشكيلي إبراهيم برغود، وبعد أن تجاوز مرحلة الطفولة بدأت محاولاته لتقليد الرسومات المختلفة، وكل ما تقع عيناه عليه من مشاهدات ظلت محط اهتمامه، وخاصة بالنسبة للرسوم الكلاسيكية والواقعية التي تعلق بها، فكان يحاول تقليد تلك الأعمال باستعمال مادة الشمع والطباشير، إلى أن انتسب إلى مركز الفنون التشكيلية في مدينة حلب، مسقط رأسه، وشارك في ما بعد في الكثير من المعارض الفنية بعد أن أصبح شابا يافعا تعمّقت تجربته، فتمكن من أن يَشق طريق حياته الفنية وعشقه لهذا الفن، فأخذ يرسم ما يتعلق بالحالات الإنسانية، ومنها ما يُعنَى بالحروب والكوارث، ومعالجة القضايا الإنسانية، وتجسيدها في لوحات عرضت في جميع أنحاء العالم.
حساسية مفرطة
عن بدايته مع الفن التشكيلي، والمدارس التي اهتم بها ولفتت نظره، يقول الفنان في حواره مع “العرب”، “كل موهبة تكون عفوية بسيطة وغير إرادية في بدايتها، ولكل طفل أدواته بحسب البيئة التي يعيش فيها. وباعتبار أنّني ابن ريف بسيط لم أمتلك أدوات ومستلزمات الرسم التي كان يمتلكها طفل آخر يعيش في بيئة أفضل من تلك التي كانت فرضت علي.
كانت أدواتي بعض الأقلام البسيطة وحجر الحوّار لرسم بعض الأشكال التي تستهويني وأعيش فيها وتعيش داخلي مثل قبب الطين والأشجار والطبيعة الريفية بمختلف أشكالها، وبما تحتوي من بيادر القمح والفلاحين وناقلي الماء وبعض الحيوانات، كل ذلك كان يرسم على الجدران والأرض أو على أي قطعة خشبية أو معدنية تقع بين يدي، بالإضافة إلى بعض أوراق الدفاتر والكتب. وكانت بالقرب من بيتنا هضبة اسمها البيلونة، يستخرجون منها ‘البيلون’ المعروف لدى الحلبيين أكثر من غيرهم لاستخدامه في الحمام، وبعد نقعه بالماء يُصبح مثل عجينة الصلصال، فكان أداة للأعمال النحتية بالنسبة لي حيث أطوعه لجميع الأشكال التي أرغب في نحتها”.
ويوضح “بالإضافة إلى ذلك لم نكن نملك الألعاب الترفيهية كما هو الحال في مثل هذا اليوم، فكانت الأسلاك المعدنية هي الوسيلة الوحيدة بالنسبة لنا كأطفال وجزء من ألعابنا، حيث كنا نصنع منها العربات التي تجرّها الخيول والحافلات والسيارات والبيوت الحديثة. كل ذلك كان أثناء طفولتي حتى نهاية المرحلة الإعدادية. استمر هذا الحال ونلت أول جائزة على مستوى مدينة حلب وريفها في مسابقات الطلائع، وذلك في مرحلة دراستي الابتدائية، وشاركت بعدها في معارض المرحلة الإعدادية، وكان هوسي كبيرا في البحث عن لوحات لفنانين كبار في المجلات والجرائد التي تكون بصحبة أخي الكبير القادم بها من مدينة حلب، وكنت أدهش بالرسومات الكلاسيكية والواقعية وأحاول تقليدها بأدوات بسيطة وتقليدية كالشمع والطباشير وغيرهما”.
كل موهبة تكون عفوية بسيطة وغير إرادية في بدايتها، ولكل طفل أدواته بحسب البيئة التي يعيش فيها
ويوضح الفنان لـ”العرب” أنه بعد تلك الفترات الدراسية والتجارب البسيطة “انتسبت إلى مركز الفنون التشكيلية في حلب ودرست على يد كبار الفنانين التشكيليين وتعلمت منهم الدراسة الأكاديمية، وأكثر ما كان يلفت نظري الرسم الواقعي، وبدأت بالبحث عن تجربة وأسلوب كل فنان وتقنياته، وشاركت في عدّة معارض مع فناني حلب عندما كنتُ طالبا، حيث بدأت في تلك الفترة العمل والبحث والتعمّق في المدرسة التعبيرية التي عملت عليها ومازلت، ومن خلالها تمكنت من نقل أفكاري وأحاسيسي إلى المتلقي، وذلك بالعمل على رسم العديد من المواضيع التي تتعلق بالحالات الإنسانية التي نعيشها”.
ويشرح “كان معرضي الأول بحلب تحت مسمى ‘حالات إنسانية’، وبعد ذلك عالجت العديد من القضايا الإنسانية التي تتعلق بالحروب والكوارث الطبيعية من خلال اللوحة، والهدف هو نقل رسالة معاناة أهلنا في سوريا وفلسطين وكل من عانى من اضطهاد وظلم الدكتاتورية، بالإضافة إلى معالجة قضية انتهاكات حقوق الإنسان والطفولة خاصة أنني جسدتها في لوحاتي، وعرضتها في الكثير من دول العالم. ومن واجب الفنان التشكيلي والكاتب والشاعر أن يكونوا رسل سلام ومحبّة ومؤرخين للواقع وما يجري من خلال أعمالهم”.
لكل فنان طقوسه

عن طقوسه الخاصة في الرسم، يقول الفنان إبراهيم برغود “أعتقد أن كلّ إنسان له طقوسه الخاصة في المجتمع، والفنان واحد من هذا المجتمع. ولأن الفنان يمتاز بحساسية أكثر من غيره في محيطه، يمكنني أن أقول إنني لا أستطيع الاقتراب من ألواني ومرسمي لأسابيع، ويمكن لأشهر. فالسطح الأبيض الخاص باللوحة يكون أحيانا مخيفا ولا يمكن الاقتراب منه، لأنك لا تملك بداخلك أي أفكار وخواطر لتفريغها، لاسيما أنّ اللوحة وليدة فكرة وتأتي دون سابق إنذار”.
وعن الفن التشكيلي باعتبار أنه غموض وجمال، وكيف يمكن لغير الفنان قراءة اللوحات الفنية. يقول الفنان برغود “يوجد خطأ شائع وكبير بين الناس غير المتابعين للفن التشكيلي. يظن هؤلاء أنَّ الفن التشكيلي هو اللوحة التجريدية أو النصب التجريدي فقط، ولا يعلمون أنّ جميع الفنون البصرية من رسم ونحت وغرافيك وغيرها تتم تسميتها تحت اسم كبير وهو الفن التشكيلي، وأن كل هذه الفنون لها مدارس متعدّدة كالكلاسيكية والواقعية والتعبيرية وغيرها حتى التجريدية”.
وعما يمكن أن يقال إن هناك غموضا في اللوحة، يوضح الفنان أن “الفن التشكيلي ليس غامضا، وإنما الغموض في اللوحة التجريدية غير المألوفة لدى المتلقي العادي وغير المتابع للفن، الذي يريد أن يرى الشجرة شجرة، والنار بألوانها وتفاصيلها الدقيقة، بينما اللوحة التجريدية تعتمد على طرح فكرة أو موضوع بشكل غير مباشر، وتعتمد على الألوان والخطوط والرموز، لذا فإن المشاهد العادي لا يستطيع فك هذه الرموز ومعرفتها. ومن هذا المنطلق يمكنني القول إن المشكلة تكمن في المتلقي وليس في الفنان. فاللوحة فكرة لحظة تتبادر إلى ذهنه بشكل مفاجئ، والفنان لا يفكر بالنتيجة سواء أكانت ترضي المتلقي أم لا، وهل يمكن للمتلقي أن يكون قادرا على قراءة لوحته أم لا لأن الفنان يرى العالم المحيط به بعين مختلفة، بعيدا عن عين العامة لاسيما أنّه يعيش في عالمه الخاص”.
ويستخلص الفنان مما سبق “أنّ قراءة اللوحة تعتمد بشكل مباشر على الحصيلة الثقافية والمعرفية بالنسبة للمتلقي، وما يستند إليه من ذائقة ومعرفة جيدة للوحة مما يمكنه من فكّ رموز اللوحات وقراءة مشاعر وأحاسيس الفنان”.
أعمالي تخترق القلوب

عن اللوحات وما يمكن أن تضفيه على أجواء المنازل، يشدد الفنان إبراهيم برغود على أن “أعمالي ليست من أجل تزيين جدران الأبنية فقط، بل أيضا من أجل أن تخترق جدران القلوب، وتحثّها على المحبّة والسلام. اللوحة هي جزء من المجتمع، وقد وجدت على جدران الكهوف منذ زمن بعيد، ولذلك أعتقد أنه يجب أن تكون جزءا من المنزل، لأنها تضفي جوا من الدفء والحميمية فيه، وليس بالضرورة أن تكون اللوحة جميلة وأنيقة كالزهور وغيرها كما يعي ذلك الكثيرون، وإنما هناك الكثير من اللوحات العالمية تقرأ فيها الكثير من المعاني الإنسانية والقيم الأخلاقية والفكر العميق، والفلسفة الوجدانية ما يجعلك تفكر في فك رموزها وما تضفيه ألوانها من جمال، ودليلنا في ذلك لوحة ‘غيرنيكا’ وهي من أشهر لوحات الفنان بيكاسو التي كانت كرد فعل على جرائم الضحايا نتيجة القصف الذي تم من قبل النازية على بلدة ‘غيرنيكا’ الإسبانية، وما نتج عنها من مآس ومعاناة للكثير من الناس في تلك الفترة”.
وعن سبل اكتشاف موهبة الرسم عند الصغار، يقول “أستذكر هنا قولا للفنان العالمي بيكاسو ‘كل طفل فنان’. المشكلة هي كيف تصبح فنانا عندما تكبر؟ أعتقد أنّ الموهبة جينات وراثية، ولكن هذه الجينات أشبهها أنا مثل حبة القمح، أو أي بذرة مغروسة بالتراب، فإما أن تعتني بها لتنتج لك سنبلة مثمرة، وإما أن تهملها دون عناية ما يعني أنها تذبل وتذوي، لكنها لا تموت، ولذلك اكتشاف موهبة الطفل تتم من خلال حركاته واهتماماته في المنزل والمدرسة والحديقة، ويمكن من خلال كتاباته على دفتره وجدران بيته، والمواهب كثيرة منها الموسيقى، والرسم والغناء وغير ذلك”.
وفي إجابة عن سؤال كيف يقرأ الفنان إبراهيم برغود واقع الحركة التشكيلية للفنانين العرب في النمسا؟ يقول “عندما نتحدث عن الفنانين العرب في النمسا يمكن القول إن في فيينا تتوافر روح الفن، لأنها مدينة الفن والثقافة والموسيقى.. فأغلب الفنانين العرب وغير العرب يقيمون فيها، وبعد أن أجبرت على الرحيل من سوريا قسرا، استقررت بالنمسا في عام 2013 حين لم يكن في فيينا سوى ثلاثة أو أربعة فنانين تشكيليين عرب ولكن الآن يوجد هناك عدد لا بأس به من الفنانين السوريين والعراقيين والمصريين وغيرهم من باقي الدول العربية، منهم الفنانون المهمون ولهم نشاطاتهم الفنية على مستوى العالم، ولكل منهم تجربته الفنية وأسلوبه وتقنيته والبعض الآخر يمكننا أن نقول عنهم إنهم ما زالوا في طور الهواة”.