الفنانون السعوديون يحظون بدعم سلطات بلادهم بعد عقود من التهميش

تمثل الفنون أهمية بالغة في رؤية السعودية الجديدة، وذلك لكونها إحدى الركائز الأساسية للمستقبل ولتحقيق حياة قوامها التعايش والتنمية المستدامة والرهان على الطاقات البشرية وعلى خلق مجتمع يؤمن بالمعرفة والفن. وفي هذا الإطار بات الفنانون السعوديون يحظون بدعم رسمي كبير ليتغير واقعهم جذريا عبر الانخراط في مشاريع مستقبلية سيكون لها تأثير كبير.
العلا (السعودية) - في أحد أشهر أعمال الفنان السعودي أحمد ماطر، يتحول ظل مضخة وقود إلى رجل يمسك بمسدس ويصوبه إلى رأسه، في انتقاد واضح للأثر الضار للنفط الذي تعد بلاده أحد أكبر منتجيه ومصدريه في العالم.
ولسنوات عدة، لم يكن متاحا أمام معظم السعوديين رؤية هذه القطعة الفنية المسماة “تطور الإنسان”، إذ اعتبر القائمون على المعارض الفنية المحلية أنها تتناول موضوعا “حساسا” للغاية في المملكة التي يعتمد اقتصادها بدرجة كبيرة على النفط.
تغيير كبير

مشروع "وادي الفن" في العلا يغطي 65 كيلومترا مربعا في الصحارى السعودية بنماذج حديثة من "فن الأرض"
يؤشر عرض هذه القطعة في معرض نظم حديثا في الرياض، على تغيير كبير في البلاد.
ومع سعي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتغيير صورة المملكة المحافظة وجعلها وجهة فنية عالمية، يوفر المسؤولون فرصا غير مسبوقة لماطر وأقرانه.
وكشف عن آخر هذه الفرص الاثنين، عبر إعلان مشروع لإبراز أعمال ماطر والفنانة السعودية منال الضويان، في سلسلة من التشكيلات الدائمة في الصحراء المفتوحة خارج العلا، وهي وجهة جذب سياحي جديدة في شمال غرب المدينة المنورة.
ويرحب فنانون مثل ماطر بارتياح بدعم الدولة بعد سنوات من محاولة الوصول إلى الجمهور السعودي وقيادة مشهد فني محلي نابض بالحياة.
وصرح ماطر في معرضه في الرياض “عادة ما أؤمن بإيجاد حركة ذات قاعدة شعبية تكون عضوية، لكن ماذا لو كان هناك دعم من أعلى إلى أسفل؟ هذا أفضل حتى”. وتابع “هذا هو التغيير. هذا هو الأمر الجديد”.
من ناحية أخرى يهدف مشروع “وادي الفن” في العلا لتغطية 65 كيلومترا مربعا في صحارى السعودية بنماذج حديثة من “فن الأرض”، الحركة الفنية الساعية لإخراج الفن من ضيق المعارض إلى رحاب الطبيعة.
ومن المقرر اكتمال إنجاز المشروع في العام 2024، وسيتضمن أعمالا فنية مستمدة من طبيعة العلا الفريدة لأشهر الفنانين السعوديين والعالميين، حيث سيستقطب عشاق الفن من جميع أنحاء العالم؛ كون هذه الوجهة تشكل مزيجا فريدا يجمع الأعمال الفنية الإبداعية المتكاملة مع البيئة الطبيعية.
وبالإضافة إلى ماطر والضويان، تتضمن قائمة المساهمين عمالقة في فن الأرض مثل الفنانة المجرية الأميركية أغنيس دينيس التي زرعت في ثمانينات القرن الماضي وحصدت ما يزيد عن ثمانية آلاف متر مربع من القمح على مقربة من مقر بورصة “وول ستريت” في نيويورك.
الفنانون السعوديون يرحبون بدعم الدولة بعد سنوات من محاولة الوصول إلى الجمهور السعودي وخلق مشهد فني فاعل
ويندرج المشروع الجديد ضمن هدف أوسع لتحويل منطقة العلا، المشهورة بالمقابر الأثرية النبطية المنتشرة وسط جبال ووديان من الحجر الرملي، إلى مركز فني من الدرجة الأولى يتضمن منتجعات بيئية فاخرة ومسرحا ضخما مغطى بألواح عاكسة.
وقالت منظمة المعارض إيونا بلازويك، المنسقة السابقة لمعرض وايت تشابل في لندن، إن أعمال وادي الفن “على مستوى وطموح وهناك رؤية من ورائها. أعتقد أن الناس سيرغبون في المجيء لأجيال عديدة لزيارتها”.
وأوضحت الضويان، إحدى المساهمات السعوديات، أنه حتى وقت قريب كانت أعمالها تنتشر خارج المملكة أكثر من داخلها، رغم رفضها فكرة أن للأمر علاقة بالرقابة.
وقالت “كنت أتحدث عن مواضيع صعبة للغاية عندما كانت الأمور مقيدة بشكل حقيقي هنا، وكانت أموري على ما يرام. نشرت أعمالي في كل الصحف. لم أتعرض للرقابة مطلقا”. وتابعت “أنظر للخلف وأفكر كيف حدث ذلك؟”.
وأوضحت إيمان الحسين العضو غير المقيمة في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، أن طبيعة الأعمال المرئية للفنانين تمنحهم مساحة أكبر للتعبير مقارنة بما قد يتمتع به النشطاء السعوديون.
وقالت إن “الفنانين قادرون على التعبير عن أنفسهم بحرية أكبر لأن أعمالهم الفنية يمكن تفسيرها بطرق مختلفة”.
ويبدو هذا صحيحا راهنا في السعودية، حيث تعتمد السلطات على الفنون للمساعدة على إحداث التغيير.
القوة هي الناس
بعد عقدين عرضت خلالهما أعمالها بشكل رئيسي للأجانب، تنعم الضويان الآن بموجة من الاهتمام المحلي. وقالت “تعرض أعمالي باستمرار هنا. يعاد اكتشافي من شعبي ومجتمعي. دأبوا على متابعتي عبر إنستغرام. الآن يمكنهم بالفعل المجيء ومشاهدة أعمالي الفنية”.
وأضافت “بالنسبة إلي، إنها لحظة جميلة لدرجة أنني أشعر بأني لا أزال صغيرة بما يكفي للاستمتاع بها”.
ولدى ماطر أيضا تجارب إيجابية عموما مع السلطات السعودية، رغم أن هناك قيودا كانت مفروضة على حرية التعبير ألقت بظلالها على صديق طفولته أشرف فياض.
من المقرر اكتمال إنجاز المشروع في العام 2024، وسيتضمن أعمالا فنية مستمدة من طبيعة العلا الفريدة لأشهر الفنانين السعوديين والعالميين
واتهم فياض، وهو شاعر فلسطيني يعيش في السعودية، بالردة عام 2014 بعد أن اتهمه مواطن سعودي بالترويج للإلحاد. وقضت محكمة سعودية بإعدامه في 2015، وخفف الحكم إلى السجن ثماني سنوات بعد الاستئناف.
ويرى ماطر قضية زميله فياض بمثابة ارتداد إلى زمن أقل انفتاحا، ولا يعتقد أن قضيته كانت لتعالج بالطريقة نفسها إذا ما حدثت اليوم.
وقال “لا تزال القضية مهمة للغاية لأن أشرف يجب أن يخرج من السجن”، معربا عن أمله في الإفراج عن صديقه قريبا.
وحاليا، يواصل ماطر عمله الفني الذي يلامس السياسة. ويتضمن مشروعه لوادي الفن بناء أنفاق يمكن للزوار دخولها.
وبمجرد دخولهم، ستعرض صور الزوار بتقنية الهولوغرام فوق الكثبان الرملية، في تأثير يشبه السراب.
وتكمن الفكرة في جعل الناس العاديين مركزا للمشروع. وقال ماطر “يتعلق النحت عادة بمعالم القوة”، وتابع “وما أتحدث عنه هنا هو: القوة هي الناس أنفسهم”.