الفلسطينيون وأحاديث المُحبطين

إن كان هناك في تاريخ كل شعوب المستعمرات، عناصر أو شرائح تمالئ المستعمر وتنخرط في جيشه وشرطته، بنسب عددية لم يصل الضالون الفلسطينيون إلى عُشرها طوال تاريخهم.
الجمعة 2019/05/10
الجيوش تكيدُ للجيوش

في برنامج حواري على شاشة إحدى قنوات التلفزة الإسرائيلية؛ تحدث أشرف العجرمي، وهو وزير فلسطيني سابق، فقال محاججاً إن الفلسطينيين قد أسهموا بقوة في حماية إسرائيل، ولما عارضه محاوره الإسرائيلي في هذا الإدعاء، أضاف العجرمي مؤكدا “لقد أسهم الشعب الفلسطيني في حماية إسرائيل، أكثر من إسهام الإسرائيليين أنفسهم”، وأضاف ما معناه، أن الفلسطينيين بهذه الحماية، كانوا ينشدون الاستقرار والتنمية ورغد العيش!

إثر هذا التصريح سارع محامٍ ومحامية، فلسطينيان، إلى التقدم ببلاغ إلى النائب العام، ضد الوزير السابق أشرف العجرمي، بتهمة “إهانة الشعور الوطني الفلسطيني والتفاخر بحماية الاحتلال”. وفي الحقيقة، لم يوفق أشرف العجرمي فيما قاله، واستحق الزجر والاستنكار، وإن كان هناك في تاريخ كل شعوب المستعمرات، عناصر أو شرائح تمالئ المستعمر وتنخرط في جيشه وشرطته، بنسب عددية لم يصل الضالون الفلسطينيون إلى عُشرها طوال تاريخهم.

كان بمقدور العجرمي أن يستخدم صيغة التبعيض، فيقول إن بعض الفلسطينيين أسهموا، وتلك ظاهرة تنشأ في كل حقبة استعمارية. عندئذٍ سيكتفي المعنيون بالرد عليه، بالتأكيد على أن الفلسطينيين غير مضطرين إلى استخدام ورقة العملاء لصالحهم في المحاججة السياسية، لاسيما وأن فكرة السلام نفسها، وما يتبعها من تطبيع وتعاون مع كل شعوب العالم الإسلامي -مثلما ورد في نص ما يُسمى “مبادرة السلام العربية”- لم تُرقق قلب المحتل الصهيوني ولا تشكل له غواية.

فإن كان الإفلاس سيصل بواحد من النخبة الفلسطينية، إلى درجة توظيف فعل الشرائح الضالة، لصالح قضية شعبه، فالأجدر أن ينزوي بين شقوق الأرض، ذلك لأن قولاً مثل هذا، عندما يُطرح بهذه الخفة، لا تبرره معرفة بالتاريخ، ولا يبرره استدرار الدراهم تحت عناوين المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب. بل إن فيه إهانة لشعب من أشد الشعوب قتالاً ضد مستعمريها، وعلى مدى زمني، لا يطاله زمن كفاح أي شعب آخر!

حيال مثل هذه الواقعة، يجدر التنويه إلى ثلاث ملاحظات تتعلق بثلاثة إفلاسات على مستوى النخبة السياسية والاجتماعية الفلسطينية.

أولى هذه الملاحظات، أن الكثير من العناصر الناشطة التي استمرأت التمويل الأجنبي في إطار شبكة المنظمات غير الحكومية (إن جي أوز) وغالبيتها العظمى من اليساريين؛ لم يعد لديها الكثير مما تفعله، لأن مهمتها الأصلية كانت التأثير النوعي في كيفيات الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية الفلسطينية. لكن الحياة نفسها أصبحت اليوم معطلة على مستوى جوانبها الأساسية، وبالتالي وجدت هذه العناصر ضالتها في لعبة التصريحات والاستضافات التلفزيونية، التي لن تجذب الانتباه دون طرح صيغ جديدة من التعبير يرتجلها أصحابها.

الملاحظة الثانية، أن المغرمين بما يسمى هجوم السلام وتخليق الأفكار التي من شأنها إحراج المحتلين -كما يظنون- بمنطق الوداد والمحبة أو التذكير بفوائد العيش المشترك؛ صُدموا من الإفراط في التطرف والظلامية، من قبل الصهيونية الدينية.

لقد أصبح الفلسطينيون في مواجهة قوى عنصرية تكره البشر كبشر، وترفض حتى أن تتلقى الهزيمة من أعدائها، لأن الهزيمة لا تمنع المهزوم من إعادة الكرّة، لذا تراهم يريدون عبيداً ولا يريدون مهزومين. ثم إن المشكلة بالنسبة للصهيونيين، لا تتعلق بنوع السلام الذي يطالبهم به العالم، وإنما بنوع الموت الذي ينبغي أن يُمنى به “الأغيار” الفلسطينيين!

هذه الحقيقة تدفع الواهم الذي صُدم وأفلست حججه، إلى المزاودة على العدو في الإدعاء بأنه كان حامياً له يحافظ على سلامته وسلامة سياقاته!

أما ملاحظة الإفلاس الثالثة، فهي تتعلق بالمحامي والمحامية، اللذيْن سارعا فوراً إلى تقديم بلاغ إلى النائب العام، ضد أشرف العجرمي، بتهمة “إهانة الشعور الوطني والتفاخر بحماية إسرائيل”.

إن وجه الإفلاس هنا، ينشأ عن عجز المحامي والمحامية عن تقديم البلاغ ضد شخص يعرفانه ويعرفان أن ثرثراته أفدح وأسوأ أثراً على الشعور الوطني الفلسطيني، وتقع في إطار التهمة نفسها، لأن الشخص هو المسؤول الرسمي الأول في بلادهم، ولديه تشكيلة متنوعة من التصريحات، التي تتجاوز التأكيد على قرار العمل على حماية إسرائيل، وتذهب إلى شرح التفصيلات بلغة مهينة للفلسطينيين أنفسهم وليس لمشاعرهم الوطنية وحسب!

إن الشرائح الهامشية التي تعاونت مع المستعمر، في جميع المستعمرات بلا استثناء، تركت للأجيال قصصاً ومفارقات محزنة لكنها مسلية لمن يقرأ وقائعها.

وبالنسبة للفلسطينيين، مرت في تاريخهم عناصر من النخبة الثقافية والاجتماعية، أفرطت في الترحيب بالغازي البريطاني عندما احتل القدس في ديسمبر 1917، وكان من بينها من يقرض الشعر في مديح الغزاة البريطانيين. أيامها كانت الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني مخبوطة على رأسها بعد سنوات عجاف: غلاظة تركية تخللتها المشانق وجر الشباب إلى الحرب، وموجة عاتية من الجراد في العام 1915، وغزو بريطاني لم تقاومه سوى غزة التي صدت ثلاث هجمات بريطانية قوية عليها، ولم تسقط إلا بالالتفاف عليها عندما فتح الجيش البريطاني الطريق بينها وبين بئر السبع وتمكن من الالتفاف عليها.

وبخصوص قيام إسرائيل وحمايتها، لا نعلم ما الذي يمنع المصارحة بالحقيقة التي تؤكدها الرواية التاريخية ومذكرات جنرالات إسرائيل أنفسهم. فإسرائيل مدينة بوجودها للمنظومة السلطوية والنخبوية العربية طوال سنوات تعزيز مؤسسات المشروع الصهيوني في حماية البريطانيين، حتى يوم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل. فلم يكن العمل العسكري الصهيوني في العام 1948 كافياً لقيام إسرائيل وحمايتها. فلولا الهدنة الأولى التي منحها الملك عبدالله بن الحسين لليهود يوم 11 يونيو لكانت إسرائيل مجرد فكرة فاشلة مرت في التاريخ شأنها شأن دولة الدروز في سوريا أو دولة العلويين على الساحل السوري.

وبعد الهدنة، جاء السقوط المفاجئ والمريع والعجيب للنقب الواقع ضمن الأراضي المقترحة للدولة الفلسطينية في خارطة التقسيم، بعد التخلص -بنيران مصرية صديقة- من قائد المتطوعين الشهيد أحمد عبدالعزيز، والقصة طويلة. وفي خضم الحرب، كانت خطوط ديفيد بن غوريون مفتوحة على النخب العربية، وكانت الجيوش تكيدُ للجيوش، وتلك ممارسات تُنسب في التاريخ إلى سلطات ونُخب وليس إلى الشعوب. وبالنسبة للفلسطينيين، لم يقاتل شعب دفاعاً عن أرضه وحقوقه، مثلما قاتل الشعب الفلسطيني ولا يزال!

9