الفلاكة والمفلوكون

الفلاكة "غطاء وستر على المحاسن، تجد الشّهرة والصيت والسّمعة يقعنَ في غير موقعها، فربَّ شخص مشهور بالعلم والصَّلاح لكنه مفلوك".
الخميس 2020/04/16
الفارابي مِن أبرز المفلوكين الذين ذكرهم الدَّلجي في كتابه

وجدتُ هذا الكتاب غريبا في “عنوانه” ألا وهو "الفلاكة والمفلوكون"، وعجيبا في سبب تأليفه، والأعجب مؤلفه الحافظ شهاب الملِّة والدِّين أحمد بن علي الدَّلجي (ت 838 هـ). فمِن جهة يُعد إماما وحافظا، ومِن جهة يُتهم بالزَّندقة (الزِّركلي، معجم الأعلام). كيف اتفقت الزَّندقة مع الإمامة والحفظ؟ إلا أن يكون سلوكه سببا، فكان يسخر من الناس، ليس عنده كبير، وبهذا رُمي بالزَّندقة، أو أنه خالف أئمة زمانه مِن الفقهاء، وأعطى رأيا.

يبدأ كتابه الذي صدرت طبعته الأولى بالقاهرة (مطبعة الشَّعب في شارع محمد علي) العام 1904، وبهذا العنوان، الغريب على العربية، لذا يقول إنه استعاره مِن غير العربية، ويستهله بعبارة “يا معشر إخواني المفاليك”، وليس مِن شك أن الدَّلجي كان أحدهم.

 فالمفلوك يعني “الرَّجل غير المحظوظ، المهمل بين النَّاس”، والقول للمؤلف. غير أنه ركز على أهل العلم والفلسفة والكلام والنحو، واعتبرهم مفلوكين بالضَّرورة، لذا يتعرّضون إلى مساخر أهل الجاه والثراء والسياسة من الحاكمين، وهم بالعادة كثيرو الترحال والتجوال في آفاق الأرض، بحثا عن الحظ الحَسن، والبعد عن الفقر والفاقة. فبعضهم، أي المفلوكون، يرى أن النعمة والجاه مِن حقه، لكنهما راحا لغيره مِن دون استحقاق، بعد أن غُصبا منه. وبالتالي الفلاكة “غطاء وستر على المحاسن، تجد الشّهرة والصيت والسّمعة يقعنَ في غير موقعها، فربَّ شخص مشهور بالعلم والصَّلاح لكنه مفلوك”. فإذا زالت الفلاكة “زولف النَّاس بالثناء” لمن غادرته.

ذكر أسماء كبار في كتابه على أنهم من المفلوكين، أي الذين تعثر حظهم وهجرتهم النِّعمة، وساءت حظوظهم، لكنه أغفل أبرز المفلوكين، كان صاحب موهبة، بينما كان يعيش على أجرة نسخ الكتب، وهو أبوحيان التوحيدي (ت 414 هـ)، ولهذا حسد الوزراء، وصنف كتابه "أخلاق الوزيرين" أو "ذم الوزيرين"، فكان يرى نفسه أعلى مرتبة من الوزيرين ابن العميد وابن عباد، وكان ينسخ لمكتبتهما الكتب.

مِن أبرز المفلوكين الذين ذكرهم الدَّلجي في كتابه أبونصر الفارابي (قُتل 334هـ)، وهو الفيلسوف المشهور، فكان كثير الترحال، وانتهت، حسب الدَّلجي، حياته بخروج اللصوص عليه فقتلوه، ولم نجد ذلك لدى مَن ترجم له مِن الآخرين، إلا أنهم ذكروا ضعف حاله، واضطراره القراءة على ضوء سراج الحارس (ابن أبي أُصيبعة، طبقات الأطباء).

يقول الفارابي عن حاله "بزجاجتين قضيت عمري/وعليهما عولت أمري/فزجاجةٌ ملئت بحبرٍ/ وزجاجةٌ ملئت بخمري/فبذي أدوّن حكمتي/ وبذي أُزيل هموم صدري"، ومع ذلك كان لا يحب الندامة، يشرب بمفرده. مِن استهزاء صاحب "الفلاكة والمفلوكون" بغيره تمثل بالبيت "أرى ثيابا ولكن حشوها بقرٌ/بلا قرونٍ وذا عيبٌ على البقرِ".

24