الفراغ الداخلي واستعارات الجثة بين الرواية واللوحة

لعل من السمات الأساسية لحال النفي والتوزع عبر المعابر، والاقتلاع من المراتع الأصلية تلك التي يكف فيها الجسد عن منح الشعور بالامتلاء والحركة، وتوليد الأحاسيس المتصلة بالأعضاء والغرائز، ويستحيل فيها إلى جثة مجازية، تجاور الجثث الحقيقية المكومة في شوارع المدن المنتهكة، ومشافيها ومعسكرات اعتقالها، من هنا كان تعبير رواية “سماء قريبة من بيتنا” للسورية شهلا العجيلي، عن حال التجاور هذا الذي يصل الجسد بالجثة عبر تجربة السرطان الذي نكل بجسد البطلة “جمان بدران” الخارجة من حلب إلى عمّان، لتعيش تجربة الشتات بكل ما يعنيه من فقد للبيت والعمل والأهل وحتى الأغراض الشخصية البسيطة، والذي حولها بين عشية وضحاها من أستاذة جامعية إلى عاملة في مؤسسة هولندية للتضامن.
تختصر الساردة عبر مسارات تفاقم السرطان في الجسد، هيمنة استعارات الجثة في مدونة تعبير المنفي عن استيطانه لحياة مفتعلة، وعابرة، بحيث تطل في كل مرة مفردات قادمة من عتمة الموت وتحلل المشاعر وتفسخ الأطراف وعصيانها، ذلك ما يسترعي الانتباه منذ اللحظة الأولى التي تواجه فيها البطلة أشعة الكشف ومحاليل الفحص ونظرات الطبيب الاختصاصي، حيث يتجلى الحوار وكأنما مع جسد وصوت دون كنه وجداني، يضاعف أحاسيس النفي، ويوحي بأن الخروج واللجوء والشتات ليست صفات جمعية تتصل بالخصاصة إلى المحيط الأليف، ومقومات العيش الظاهرة إنما هو بمعنى ما تشوه لمعنى العيش في الداخل العميق. تقول الساردة في مقطع بالغ الدلالة:
“قررت الآن أن أتفاهم مع ورمي… وبدأت بطلب النوم. للنافذة التي إلى يسار سريري مصطبة… وقضبان حماية حديدية، ما إن التفت إليها بجسدي لأبحث عن وضعية مناسبة للنوم، حتى أطلت حمامة رمادية… وأجبرتني على الابتسام. انتبهت أني لا زلت قادرة على أن أفعل… بين الصحو والمنام، تسللت إلى أذني عبارات مشوشة، وكأن أحدا يسمع نشرة أخبار… علو منخفض وشظايا، الدولة الإسلامية… طائرات النظام… ثم ينسرب حُداء من عند الجيران: وسترجع يوما يا ولدي، مهزوما، مكسور الوجدان…”.
ينبع صوت المتكلم في المقطع الروائي من خارج الجسد العليل، ويخط الوعي مسافة مع الأعضاء، وكأنما يتعلق الأمر بذات ثانية، تتمثل هي عينها كآخر، موضعا للتأمل واستبطان الأحاسيس المنتكسة والكسيرة والمهزومة، وتختصَر الكتلة الظاهرة في بؤرة تشوهها وانمحائها، فتتحول إلى مجرد ورم يختزل المسافة إلى الجثة القادمة.
الروائية شهلا العجيلي والتشكيلية فاديا عفاش كلتاهما اشتغلتا على الفراغ في بناء سردي مكثف مخطوط بالقلم والريشة
لن يعود الجسد في المبنى السردي كما كان برغم تجاوزه لأورامه الظاهرة والباطنة، ما دام السياق العام مجتاحا بالفراغ، تتساقط عن بعد أحاسيس القرابة مع تساقط الأهل والأصدقاء والجيران في مطحنة الحرب، وأخذ ما تبقى من محيط أليف إلى المعتقلات وتوزع من تبقى بين مخيمات اللجوء، حيث لن يعود لكل تلك الكائنات البشرية من هوية إلا هوية الجثة، “عالم عنوانه (المصطفون للألم)” بتعبير البطلة جمان بدران التي لم تعد محتاجة إلى تسويات ولا إلى انتصارات، بقدر حاجتها فقط إلى دواء، يوقظ إحساسها بالوجود.
وفي مقابل جمان اللاجئة، المهدودة بالسرطان، الهاربة من ماضي أمكنة وأهل وعمل وأصدقاء إلى الفراغ الجهنمي، في رواية شهلا العجيلي؛ ترتصف ثلاث لوحات للتشكيلية السورية: فاديا عفاش التي تعيش منفاها بالولايات المتحدة، هي التي جربت الشتات منذ طفولتها حين اجتاحت إسرائيل هضبة الجولان. لوحات تستقطر الفراغ الداخلي واستعارات الجثة، على نحو أكثر إذعانا للحسية العنيفة والصاعقة، مكثفة التفاصيل المنهمرة من فجوات السرد في الكتلة الخرساء للجثة.
يطل على المشاهد من بؤرة اللوحة الأولى جسد مركون على كرسي، دون رأس، أو بالأحرى برأس مدلى إلى الأمام، لا يبرز في المنظور الخلفي للكائن المعتقل، المأخوذ إلى رخاوته الذهنية، وتفتت الوعي، بينما ينحدر مصباح ينبعث منه ما يشبه اللهب، حتى يكاد يلامس ظهر العنق، اليدان مشدودتان إلى الخلف بقيد مهوش، تغوص مادته في الأحمر المتفاقم، لا ينكشف عن حبل أو معدن، يبدو جزءا من المعصمين الطافر منهما الدم. وفي اللوحة الثانية يرتاح الجسد الهارب على حقيبة سفر حمراء ضاما الرأس بين المرفقين، منكفئا على الفخذين، في إغفاءة تعب ووجع وانتهاء، لا تبدو الملامح والقسمات في الرسم النازع إلى إظهار البعد الشبحي للشخص الملاحق للمعابر. بينما يبرز في اللوحة الثالثة جسد مكوم، جثة عارية بالأحرى، غارقة في سواد لحدي، ومظللة بغيمة حمراء، يسيل قطرها على حواف الجسد المستكين إلى فراغه وعريه، وانكماشه المرعب.
تبدو لوحات فاديا عفاش الثلاث، لقطات مضيئة لاستعارات الجثة الذاهبة إلى منفاها الداخلي والخارجي معا، وكأنما تنظر إلى تفاصيل السرطان المتفاقم الذي مثلته سردية شهلا العجيلي على نحو تفصيلي ومشذر لخريطة الخواء الذي يرافق كيان المنفي والمهاجر السوري إلى الشتات الممتد واللانهائي.