الـ "ق.ق.ج" أكثر جنس أدبي مثير للجدل

القصة القصيرة جدا نجحت في شق الطريق نحو التأسيس لنفسها كفن مستقل بذاته إلا أن غزارة الإنتاج تثير إشكاليات تتعلق بمدى فنيّة ما يتم تقديمه.
الجمعة 2018/06/29
جنس أدبي مغاير للمألوف (لوحة للفنانة غلناز فتحي)

رغم أن القصة القصيرة جدا جنس أدبي معروف منذ القدم لدى العديد من الأدباء والنقاد، الذين كتبوا نصوصا بارزة في هذا المضمار، إلا أن مثل هذه النصوص ظلت منضوية تحت مسمى وتصنيف القصة القصيرة، ولم يتم الاعتراف بها كجنس أدبي مستقل إلا في الآونة الأخيرة من قبل بعض الكتاب والنقاد، في حين لا يزال يُنظر إليها من قبل الكثير من المبدعين على أنها “فن لقيط” لا أصل له ولا مستقبل.

يصعب على وجه الدقة تحديد بدايات فن القصة القصيرة جدا “ق.ق.ج”، إلا أن بعض الأطروحات التاريخية تلفت إلى كتابات الأديب جبران خليل جبران التي تندرج تحت مسمى “القصة القصيرة جدا” مثل “الثعلب”، “القفصان”، “التوبة”، وإلى نص قصير لآرنست همنغواي وهو “حذاء طفل لم يلبس بعد؛ للبيع”، لكنها كتابات لم تعرف نقديا أو أدبيا كجنس أدبي مستقل.

في الوقت الراهن، نجحت القصة القصيرة جدا في شق الطريق نحو التأسيس لنفسها كفن مستقل بذاته، يجذب الكثير من المبدعين للإبداع فيه، إلا أن غزارة الإنتاج في هذا المضمار  تثير إشكاليات تتعلق بمدى فنيّة ما يتم تقديمه تحت هذا المسمى في الوقت الراهن، واحتماليات تطوره وانتشاره أو اندثاره وتراجعه مستقبلا.

منطق العصر

الكاتب المغربي مصطفى لغتيري، الذي يعد من أبرز كتاب القصة القصيرة جدا في المغرب، يتحدث عن رؤيته لهذا الفن قائلا “أراه انسجاما مع منطق العصر الذي ينحو نحو الاختزال والقصر والسرعة في كل شيء، فهي كذلك سيغلب عليها المزيد من الدقة والاختزال، وبعبارة أوضح فمستقبل القصة القصيرة سيتجسد في جنس القصة القصيرة جدا. هذا الجنس الأدبي الذي يكسب كل يوم مساحات جديدة من النشر ومن اهتمام الكتاب والقراء على حد سواء”.

مصطفى لغتيري: القصة القصيرة جدا جنس أدبي مستقل يتميز بانتمائه إلى شجرة السرد الكبرى
مصطفى لغتيري: القصة القصيرة جدا جنس أدبي مستقل يتميز بانتمائه إلى شجرة السرد الكبرى

ويستطرد لغتيري “القصة القصيرة جدا جنس أدبي مستقل يتميز بانتمائه إلى شجرة السرد الكبرى، وحين ننظر إلى نصوصها المميزة نجدها قد حققت كثيرا من النضج الذي أهلها لتزاحم في المكانة الرمزية باقي الأجناس الأدبية، أما في ما يتعلق بتقاربها مع الخاطرة، فيمكن فعلًا الحكم عليها بذلك إذا ما اطلعنا على نصوصها الضعيفة وما أكثرها، وهي النصوص التي لم يدرك أصحابها بعد الحدود الفاصلة ما بين الأجناس، وأظن أن ذلك ليس حكرا على القصة القصيرة جدا فقط، بل تشترك فيه باقي الأجناس الأخرى، فكم من قصيدة شعرية انزلقت نحو جنس الخاطرة، وكذلك الشأن بالنسبة للقصة القصيرة والرواية أحيانا”.

ويوضح لغتيري أن “القصة القصيرة جدا تتميز بالتقاطها للإشراقات الذهنية والنفسية والوجودية، أي تلك اللحظات الفارقة التي يحدث فيها تحول من نوع ما نفسي أو فكري أو واقعي، فيجتهد الكاتب المحترف في التقاطه وصياغته بشكل مكثف ولامع في نص قصصي قصير جدا، مع الحرص على توفر عنصر المفارقة والقفلة اللامعة”.

أما القاص المصري شريف صالح فيرى أن ازدهار أي فن بصفة عامة مرتبط بترويج الصحافة له، وأن الوسائط الحديثة مثل فيسبوك وتويتر كان لها دور بارز في ظهور القصة القصيرة جدا، التي تُكتب أحيانا بقاموس الشعر وصوره وليس بمنطق السرد.

ويلفت صالح إلى أن مستقبل أي فن، ومنه القصة القصيرة جدا، دائما ما يتردد مع رواج شكل فني بعينه، تماما مثل الحديث عن انقراض المسرح عند ظهور السينما وانقراض السينما عند ظهور التلفزيون، فمساحات الاهتمام تتباين وتتغير وتتأثر.. لكن هذا لا يعني أن جنسا فنيا سيلغي الجنس الآخر.. فكل جنس يشق طريقه إلى المستقبل دائما بطريقته الخاصة.

ويؤكد الناقد المصري الدكتور يوسف نوفل أن “القصة القصيرة جدا لون أدبي يركز فيه الأديب تجربته القصصية معتمدا على أن القصة القصيرة في أساسها هي لقطة أو موقف، أما القصة القصيرة جدا فهي تسلط الضوء على جانب معين من ذلك الموقف المركز، إذ لا مجال فيها لتحليل الشخصية أو استبطانها ولا لسرد مقدمات الأحداث أو الوصف، وإنما تعتمد على عنصر أساسي، وهو الإيحاء والرمز اختصارا للعبارة وللأحداث والشخصيات، ويعتمد المبدع في ذلك على قدرة المتلقي على تفتيت هذا التركيز وتفصيل تأويله”.

وعن مستقبل فن القصة القصيرة جدا، يقول نوفل “أرى أن المستقبل سيكون لتداخل الأجناس الأدبية، إذ سيختفي التصنيف للعمل الأدبي ما بين الرواية والقصيدة والقصة، فالعمل الأدبي سيكون شاملا للقصة والقصيدة وروح المقال وغيرها من الفنون”.

إبداع متمرد

القاص السعودي حسن البطران، والذي أصدر خمس مجموعات في فن القصة القصيرة جدا، يؤكد أن الفن والإبداع توأم لا ينفصلان عن بعضهما إن لم يكونا هو نفسه، ومن طبيعة الإبداع أنه يتجدد وتكون فيه ابتكارات ومساحة حرية واسعة، ليست لها حدود كحدود الدول، بل فضاء واسع وكبير وقد يقفز على المألوف ويتجاوز المتعارف عليه، ويتمدد ويتمرد، ويلبس أثوابا بألوان متعددة، وقد تكون شبه عارية أو ممزقة وإن لم يتقبلها المجتمع بداية، وقد تكون بأكمام كاملة، إنه صرخة وتكسير للزجاج أو تلميع له.

شريف صالح: مستقبل القصة القصيرة جدا دائما ما يتردد مع رواج شكل فني بعينه
شريف صالح: مستقبل القصة القصيرة جدا دائما ما يتردد مع رواج شكل فني بعينه

ويوضح أن القصة القصيرة جدا من ذلك الإبداع المتمرد على بقية أفراد جنسه، وأنه يسير في هذه المرحلة تحديدا بخطوات سريعة وليست تصاعدية بل تقافزية، وبه نوع من الغرائبية التمردية التي يحاول من خلالها إثبات الوجود، ويرفع يديه ويقول أنا هنا موجود.

ويصف البطران وضع القصة القصيرة جدا في الوقت الراهن بأنه يمر بمرحلة إثبات الوجود والتي لا تخلو من “الكم” الذي يتولد منه “الكيف”، وهذا وضع طبيعي للغاية، حيث الطفل لا يولد وهو يمارس آلية المشي فقبلها يمر بعدة مراحل وفي كل مرحلة يواجه صعوبات وتعثرات وعراقيل.

ويضيف البطران “عُقدت لفن القصة القصيرة جدا مهرجانات ومسابقات وأماس، وصدرت له المئات من المجموعات خلال فترة وجيزة، وبهذا وذلك هو جنس مستقل بذاته، يحمل خصائص تميزه عن غيره من الأجناس الأدبية وإن اشترك معها في بعضها، إن هذا الجنس جدير بذلك كون الجميع يمارسه الآن، حتى من كان يعارضه بدأ يتذوقه ويمارسه، وهذا دليل قوة سحره ومتانة وعمق تأثيره على المتلقي والمبدع على حد سواء”

مواكبة الحداثة

في السياق، تؤكد القاصة اليمنية انتصار السري أن فن القصة القصيرة جدا واكب تطور وحداثة هذا العصر الذي نعيش فيه، والذي يعتمد على الإيقاع السريع للحياة واللقطة المفارقة والإدهاش في نهاية السرد المختزل والمكثف للفكرة ورمزيتها وبنائها المدلولي، فهناك كتّاب أجادوا فن كتابتها بشكل جعلها تنافس ما كتبه الرواد في هذا الفن، أمثال الكاتبة ناتالي ساروت وأوهنيري وبورخيس وغيرهم كثيرون، وكان لجيل الرواد العرب تأثر كبير بهم.

وعن مستقبل هذا الفن تقول السري “هذا الزمن والزمان القادم سيكونان مستقبل القصة القصيرة جدا. كما أنها لا يمكن أن تسحب البساط من القصة القصيرة، والتي لها كيانها المستقل بها، وكما كانت لكل فن قديم حداثته في ظهوره، فإن القصة القصيرة جدا سوف تكون لها قدمها ويمكن أن يظهر فن أحدث منها”.

وتستطرد “لقد انتشر هذا الفن بشكل كبير، وهذا ما نلاحظه في العديد من الصحف والمجلات العربية، وكذلك عبر المواقع الإلكترونية، وصفحات النت التي خصصت مسابقات في فن القصة القصيرة جدا وتسابق الكتّاب من أجلها، وكذلك انتشرت الملتقيات الثقافية والأدبية في بعض الدول العربية التي تهتم بها، وهو ما يشهد على مستقبل ذلك الفن، كما أن الأدباء يتسابقون على إصدار كتبهم  فيه، ما أسهم في ترسيخ ذلك الفن المستقل بذاته والمبشر بمستقبله القادم وبقوة”.

ضعف النقد

الناقد والقاص السوري محمد ياسين صبيح، مؤسس رابطة القصة القصيرة جدا على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، والتي تنظم مسابقة أسبوعية في هذا الفن، يقول “عربيا ظهرت بوادرها مع جبران خليل جبران في المجنون، وكانت ولادتها الفعلية عربيا في العراق وسوريا وفلسطين، ثم انتقلت إلى باقي الدول العربية، فالعراقي شكري الطيار كان رائدا، ومن سوريا زكريا تامر في بعض أعماله، وعزت السيد أحمد، ونورالدين الهاشمي وغيرهم، ثم تتالت المساهمات وخاصة في المغرب العربي، ثم في باقي الدول العربية. أعمال الرواد الأوائل لم تكتمل بلورتها كقصة قصيرة جدا بشكل بحت، إنما كقصص مختصرة وسريعة حققت بعض الاختراق في القصة القصيرة العادية، وشكلت تحديا قصصيا يستوجب الاختصار والتخلص من الإسهاب المفرط والوصف الطويل، لصالح الاختصار فقط، وبقيت تتعثر بتحديدها كجنس أدبي مستقل، يخضع لاعتبارات التكثيف والإيحاء والحفاظ على عناصر القص المعتادة، وكان نشوءها نابعا من مواكبة السرعة الحياتية المتعلقة بالتطور التكنولوجي وبتطور أساليب الحياة، ومن خلال التأثر بالأعمال الأجنبية”.

حسن البطران: الفن والإبداع توأم لا ينفصلان
حسن البطران: الفن والإبداع توأم لا ينفصلان

وفي ما يتعلق بقدرة القصة القصيرة جدا على التأسيس لنفسها كفن مستقل بذاته، يقول صبيح “لن أخوض هنا في مجادلات أحقيتها واستقلاليتها كجنس أدبي محدد، لأننا نعتبر ذلك نهائيا، رغم ضعف البنية التنظيرية التي ترافقها، لكن الكينونة الأدبية والفكرية، تحتم أن لا يبقى شيء كما هو، بل سوف يخضع لعملية التطور الطبيعي، على حد تعبير كانط، الذي يشبهه بالتطور البيولوجي، ونحن نقول بالتفاعل الذاتي والخارجي المؤدي إلى ديناميكية أدبية تطورية، طبيعية، تنتج عنها صيغ أدبية جديدة، ومنها ق ق ج. ما نراه من إمكانيات كبيرة، تحققها، في أساليب سردية مكثفة وسريعة الإيقاع، يجعلها تستطيع التعبير عن أي موضوع أو فكرة بقوة ودون إطالة ووصف ممل، ونستطيع القول إنها تعتبر جنسا أدبيا مستقلا قادرا على التعبير عن شتى الموضوعات مع مقدرته على إدهاش المتلقي، وجعله يشغل ذهنه، دون أن يحشره في زوايا تأويلية نهائية”.

أما أهم المشكلات التي تعاني منها، فيقول “عدم فهم بعض الكتاب لطبيعتها، فالكثير منهم يكتبها وكأنه يكتب قصة قصيرة مختصرة، مع استخدامه للسرد الوصفي الذي يشرح الكثير من الأفكار، والبعض منهم يقلد الرواد الأوائل الذين كتبوا القصة القصيرة باختصار دون الأخذ بالاعتبار لباقي المكونات المهمة، كما يمكن اعتبار أن الاستسهال الكبير الذي يمارسه بعض كتاب المجموعات الأدبية على مواقع التواصل الاجتماعي، يسيء إليها، لكن بالمقابل هناك الكثير من هؤلاء الكتاب استطاعوا أن يطوروا أدواتهم ويستفيدوا من النقد، وأصبحوا يكتبون قصة ق ج، رائعة الصياغة والأسلوب والدلالة”.

يتابع “أهم مشكلة تعيق تطورها برأينا هي تخلف النقد عنها، فمعظم ما يكتب من نقد لا يعد سوى محاولة لشرح مغزى النص، دون الدخول إلى البنية الجمالية والأسلوبية لكتابته، وهذا يفقد النقد هدفه، أيضا وجود الفكرة الجيدة لا يعني أبدا أن القصة ستكون جيدة، دون أن تتوافر باقي العناصر وبأسلوب مبتكر، فالخاطرة أيضا لها فكرة جيدة، والمقال السياسي أيضا له فكرة جيدة، لذلك نعتبر مقدرة الكاتب على خلق صورة قصصية مبتكرة عاملا مهما لجودة القصة”.

15