الـ"كوميدي فرانسيز" وفية لموليير ما يربو على ثلاثة قرون

تحلّ في الخامس عشر من يناير الجاري الذكرى المئوية الرابعة لميلاد الكاتب والمسرحي الفرنسي الشهير موليير الذي لا تزال أعماله المسرحية خالدة حيث تعدّ مؤلفاته من الأكثر قراءة وترجمة، وتقتبس العديد من الأعمال حول العالم من نصوصه المسرحية رغم مرور أكثر من ثلاثة قرون على كتابتها.
باريس – لم يترك الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير موليير (ٍ1622 – 1673) الذي يصادف السبت ذكرى مرور أربعمئة عام على مولده، أي أثر شخصي عنه، لكنه ترك آثارا مسرحية جعلته أعظم مؤلف كوميدي غربي عرفه العالم إلى الآن.
ولا يزال اسم موليير (جان باتيست بوكلان) يقترن منذ أكثر من ثلاثة قرون بالـ”كوميدي فرانسيز” حتى بات بمثابة شفيعها، إلى درجة أن تسمية “دار موليير” تُطلق على المبنى الباريسي الشهير (المسرح الوطني الفرنسي) لأقدم فرقة مسرحية لا تزال ناشطة في العالم، رغم أن الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي لم يدخله يوما.
وبالإضافة إلى الشهادات العائدة إلى الحقبة التي عاش فيها، تشكّل أعمال موليير أهم ما بقي منه، وهي نحو ثلاثين مؤلفا كوميديا في الشعر والنثر، نسبها بعض المشككين إلى كورني أو حتى إلى لويس الرابع عشر.
وكانت العادة في عهد لويس الرابع عشر، أن يكون لكل ممثل اسم مستعار، لذلك اختار جان باتيست بوكلان اسم موليير الذي يعني مقلع حجارة، ولم يُعرف سبب اختياره هذا.
حي في كل زاوية

وُلدت الـ”كوميدي فرانسيز” عام 1680، أي بعد سبع سنوات من وفاة الكاتب المسرحي، عندما قرر الملك لويس الرابع عشر الذي كان يوفر الحماية لموليير، دمج فرقته بأخرى.
وتنقلت الفرقة بين أربع صالات مسرحية قبل أن تستقر عروضها اعتبارا من عام 1799 في قاعة ريشيليو بالقرب من قصر “باليه رويال”، أي على مقربة من المنزل الذي توفي فيه موليير.
وورد ذكر وفاة موليير في أهمّ وثيقة تملكها الـ”كوميدي فرانسيز” تُعرف بـ”سجلّ لاغرانج”، وهي مجموعة دفاتر تحمل اسم مساعد موليير لاغرانج (صاحب دور دون جوان)، وفيها كان يوثّق أنشطة فرقة الكاتب.
وتحتفظ الدار في مكتبتها ومتحفها بهذا السجلّ المسرحي وبقطع تذكارية أخرى، بينها قبّعة وساعة حُفر عليها اسم موليير.
وتشير أمينة المحفوظات أغات سانجوان إلى أن أرشيف المؤسسة يبيّن أن “أي سنة لم تمر من دون أن تقدّم الـ’كوميدي فرانسيز’ عروضا لإحدى مسرحيات موليير”.
وداخل هذا الصرح المرموق، ثمة قطعة أثاث تحظى بالتبجيل تتمثل في كرسي خشبي بذراعين معروضة داخل خزانة زجاجية، فعلى هذا المقعد نازعَ جان باتيست بوكلان، وهو اسم موليير الأصلي، خلال عرض لمسرحيته الشهيرة “المريض الوهمي”، قبل أن يُسلم الروح لاحقا في منزله.
وتشرح أمينة المحفوظات في الـ”كوميدي فرانسيز” (المسرح الوطني الفرنسي) سانجوان أن هذا الكرسي “هو نوعا ما الشيء الوحيد الذي بقي” للمؤسسة من مسرحه.
وتضيف أن للمقعد الذي بقي الممثلون يستخدمونه حتى عام 1879 “حضورا قويا إلى حدّ أنه يكاد يوحي بأن موليير لا يزال جالسا فيه”.
اسم موليير (جان باتيست بوكلان) لا يزال يقترن منذ أكثر من ثلاثة قرون بالـ"كوميدي فرانسيز" حتى بات بمثابة شفيعها
وتتوزع في كل أرجاء المبنى تماثيل نصفية للكاتب المسرحي، يحرص الممثلون على لمسها أملا في أن تأتيهم بالتوفيق وحُسن الطالع، وصور له أو لأعضاء من فرقته على غرار مدموازيل بوفال التي جسّدت شخصيات عدة من أبرزها زربينيت في مسرحية “مقالب سكابان”.
وتنتهج الـ”كوميدي فرانسيز” مبدأ مقدسا أرساه “شفيعها”، وهو التناوب، بحيث تقدّم كل ليلة عرضا مختلفا، مما يستلزم نشاط فرق العمل من الصباح إلى المساء، على اختلاف الاختصاصات، بطريقة المداورة.
ويؤكد مديرها العام الممثل إريك روف أنها “المسرح الأول في فرنسا”، فيما عدا دور الأوبرا، “من حيث حجم النشاط”، إذ تضم “400 موظف في 70 اختصاصا مهنيا و60 ممثلا”.
وفيما يعمل اختصاصيو الديكور والبناؤون في سارسيل بضواحي باريسي، يوجد مصممو الأزياء والمنجّدون والعاملون في مجال الإضاءة والصوت ومختلف الجوانب الفنية وسواهم في المبنى المتعدد الطبقات الذي يضم قاعة ريشليو. ويشغل قسم الأزياء وحده أجزاء عدة من المقرّ، ويضم نحو 50 ألف قطعة.
وتقول مديرة خدمات الملابس سيلفي لومبار “نصنع ما بين 50 و70 زيا لكل عمل مسرحي”.
ويُبرز كبير مصممي الأزياء ليونيل إرمويه الجانب “النفسي” لأولى عمليات قياس الملابس، إذ يُجري بعض الممثلين خلالها تسميع نصوصهم بطريقة ممسرحة، أي مرفقة بالحركات الملائمة.
مسيرة لن تتوقف
يعود الفضل في استمرارية دار الـ”كوميدي فرانسيز” هذا الزمن الطويل إلى طريقة العمل، إذ أن الممثلين هم أبرز صانعي القرار.
ويشرح روف الذي يشغل منصبه منذ عام 2014 أن “الفرقة أشبه بتعاونية ذاتية الإدارة، ولم يتغير ذلك منذ موليير”.
وينضم ممثلون جدد إلى الفرقة، يوظفهم مسؤولو الإدارة بصيغة موقتة، لمدة سنة قابلة للتجديد.
ثم يمكن أن تختارهم لجنة مكونة من سبعة ممثلين لتثبيتهم بصفة أعضاء دائمين. ولهذه اللجنة أيضا القرار في ما يتعلق بزيادات الرواتب.
وفي يناير 2021 أصبحت الممثلة الكبيرة دومينيك بلان العضو الدائم الرقم 538 منذ رفقاء موليير الأُوَل.
وثمة مقولة داخلية مفادها أن “المسؤول يوظف، والممثلون يصرفون”، إذ أن الأعضاء هم أيضا من يقرر الاستغناء عن بعض الممثلين، ما يتسبب أحيانا في إثارة اعتراضات ومشاكل.
ويلاحظ روف أن “ثمة من يرى في ذلك عنفا، في حين أنه حماية”، مشيرا إلى أن المسيرة الفنية لممثلين كثر طويلة جدا في فرنسا.
ورغم إقراره بأن هذا الأمر مؤلم، يؤكد أنه سيدافع دائما عن هذا المبدأ “لأن طول عمر هذه الدار يعود إلى ذلك، وإلا لكانت توقفت عام 1700”.